في الندوة الصحفية الخاصة بالتحضير للمؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية، بدا عبد الإله ابن كيران، الأمين العام للحزب، وكأنه يفتح صفحة جديدة، أو ربما يهيئ الرأي العام الحزبي لاحتمال طي صفحته السياسية على رأس التنظيم.
ففي مستهل كلمته، لمح بشكل غير مباشر إلى إمكانية عدم ترشحه مجددا لقيادة الحزب، قائلا: “من الطبيعي أن نرى التغيير في الحزب، أنا رجل كبير في السن، وأعطيت كل ما قدرت عليه، ولا زلت أعطي حسب المستطاع”.
هذه العبارات، وإن جاءت بصيغة شخصية متواضعة، لم تمر مرور الكرام، وفتحت الباب أمام تأويلات متعددة داخل الأوساط الحزبية والمتابعين، خاصة مع إشارته إلى أسماء وازنة داخل الحزب، كإدريس الأزمي وعبد الله بوانو، مشيدا بمجهوداتهما والتزامهما، في ما اعتبره البعض تلميحاً لأهلية أحدهما لخلافته في القيادة، بينما قرأها آخرون كنوع من التقدير العفوي لا أكثر.
لكن بعيدا عن الترتيبات الداخلية المحتملة، استغل ابن كيران المناسبة لتسليط الضوء على ما وصفه بالأزمة العميقة التي تعيشها الأحزاب السياسية بالمغرب، حيث لم يتردد في التعبير عن امتعاضه من تأخر الدعم المالي الذي يفترض أن تتوصل به الأحزاب من وزارة الداخلية لتنظيم مؤتمراتها الوطنية.
وأكد أن حزب العدالة والتنمية، إلى حدود منتصف أبريل، لم يحصل بعد على مستحقاته، رغم أن القانون التنظيمي واضح في هذا الباب، ويقر بأن تمويل المؤتمرات يتم في حدود نصف الدعم السنوي المخصص للحزب وفق تمثيليته في البرلمان وعدد الأصوات المحصل عليها في الانتخابات.
وهو ما اضطر الحزب، وفق ما أعلنه أمينه العام، إلى فتح باب المساهمات الفردية، التي بلغت 300 ألف درهم، في وقت ينتظر أن تصل كلفة المؤتمر إلى حوالي 3.5 مليون درهم.
بالنسبة لابن كيران، هذا الوضع لا يكشف فقط هشاشة البنية التمويلية للأحزاب، بل يبعث برسالة سلبية حول مستقبل العمل السياسي، ويغذي الشكوك حول وجود تضييق غير معلن، خاصة على حزب سبق له قيادة الحكومة لولايتين متتاليتين.
وفي سياق متصل، لم يخف ابن كيران انتقاداته الشديدة لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، متهما إياه بتكريس منطق “الولاء قبل الكفاءة” في تعيين المقربين في المناصب العمومية.
واستند إلى مرجعية دينية لتأطير موقفه، مذكّرا بحديث نبوي ينهى عن إسناد الأمور إلى غير أهلها، في إحالة تستبطن رفضا لما يعتبره انحرافا عن المعايير الموضوعية في تدبير الشأن العام.
كما سجل بأسف تراجع الأداء الحكومي، معتبرا أن المواطنين باتوا يعبرون عن حنين نسبي لمرحلة حكم العدالة والتنمية، رغم ما شابها من انتقادات.
وفي ما يشبه المكاشفة السياسية، أقر ابن كيران بأن منطق “التحكم” لم يختف تماماً، وإن أشار إلى تقلصه مقارنة بالسنوات السابقة.
لكنه شدد على أن ما يقوي الدولة ليس استمرار الوصاية على الحقل السياسي، بل ترسيخ النزاهة والديمقراطية، وضمان انتخابات حرة ونزيهة، دون تدخلات من السلطة. وهي دعوة صريحة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع على أسس من التوازن واحترام قواعد اللعبة السياسية.
في خلفية هذه التصريحات، يمكن تلمّس لحظة دقيقة يمر بها حزب العدالة والتنمية، لحظة تتقاطع فيها أسئلة القيادة، ومآلات التمويل، ومدى قدرة الحزب على التكيف مع مرحلة ما بعد تدبيره للحكومة، دون أن يفقد صوته النقدي تجاه ممارسات السلطة.
وبين سطور كلمة ابن كيران، برزت ملامح خطاب مزدوج: خطاب يراهن على “الإصلاح من الداخل”، وآخر يرسل إشارات واضحة إلى أن تماسك الحزب وقوته لا يزالان قائمين، حتى في ظل الصعوبات والتحديات.
أما المستقبل، فسيحدده المؤتمر المقبل، في ظل ترقب كبير لما إذا كان الحزب سيجدد الثقة في زعيمه التاريخي، أم سيفتح الباب أمام قيادة جديدة قد ترسم ملامح طور جديد في مساره.