الحدث بريس ـ مُتابعة
“الرجل المريض” مصطلح أطلق على الدولة العثمانية في آواخر عهدها، ويرجع سبب ذلك إلى الهزائم التي تكبدتها من الدول الأوروبية وأفقدتها الكثير من أراضيها، فذهبت مهابتها ومكانتها بين الدول وأخذت الدول الأوروبية تخطط فيما بينها لاقتسام أملاكها الممتدة على ثلاث قارات.
مناسبة استحضار هذه الواقعة التاريخية التي غيرت الخارطة الجغرافية والسياسية للعالم هو ما يعيشه حزب “العدالة والتنمية” القائد للحكومة المغربية، الذي يمر بأحلك أيامه منذ نشأته السياسية. ونستسمح العثمانيين وورثتهم الأردوغانيين لاقتباس المصطلح من أجل توصيف ما يقع لإخوانهم في المغرب من تطاحنات داخلية، والتي تجعل منه جسما أنهكته أمراض عدة يمكن إجمالها فيما يلي:
مرض جنون العظمة
وهو من أكثر الأمراض التي انسلت إلى جسم حزب العدالة والتنمية بعد الحراك الذي عرفه المغرب سنة 2011 والمعروف بحراك 20 فبراير، فمنذ أن وقف هذا الحزب في وجه حراك الشارع المغربي، وخيل له أنه هو من أنقذ المملكة والملكية المغربية من مصير مشابه لما وقع لعدد من الدول العربية وشمال الأفريقية وهو يعيش على وسواس جنون العظمة، واعتقد أنه الحامي للملكية، والمالك لمفاتيح الشارع المغربي، بل حتى أن أمينه العام السابق والذي عزل من مهمة تشكيل الحكومة لوح بورقة الشارع لأكثر من مرة في وجه الملك.
وازداد الحزب مرضا على مرض بعد الاستحقاقات الانتخابية المحلية لسنة 2015، وتزعمه لجل المدن الكبرى، والاستحقاقات الانتخابية لسنة 2016، وانتزاعه لعدد غير مسبوق من المقاعد الانتخابية، فأصبح يعيش حالة من الوهم جعلت عددا من قيادييه يصفونه بما يخالف الواقع، ويدعون امتلاكه (الحزب) قابليات استثنائية وقدرات جبارة ومواهب مميزة في تدبير الشأن العام المحلي وتسيير الحكومة والممارسة السياسة، وهو ما لا يمت للواقع بصلة حسب ما تخبرنا به المعطيات الرقمية المنسوبة لمؤسسات رسمية وطنية ودولية.
مرض الطهرانية
أصول حزب العدالة والتنمية القادم من حركات دعوية جعله يرى في نفسه أنه أطهر من باقي الأحزاب السياسية، واستعمل هذه الأصول كأصل تجاري لتنزيه أعضائه من كل نجاسة ودنس، ومبرئين من كل ماهو مشين. وهو الأمر الذي انقلب ضدهم وجعلهم تحت المجهر، وحول كل هفوة أو مخالفة للضوابط القانونية والأخلاقية، صغيرة أو كبيرة، إلى حدث جلل يضرب في أحد الثوابت التي بنى عليها الحزب وجوده، النزاهة والمصداقية.
لكن؛ واقع الحال أكد أن أعضاء “البيجيدي” لا يختلفون عن غيرهم من أعضاء بقية الأحزاب، فلا فرق بين عضو بهذا الحزب، دخل الحكومة برصيد بنكي يعادل الصفر وخرج منها وهو ضمن قائمة ملاك الفيلات بالصخيرات، وبين عضو من حزب الاتحاد تحول من معلم بأحد مداشر المغرب إلى وزير لقطاع لا يربطه به غير الراتب والتعويضات.
مرض امتلاك الحقيقة
“ما أقوله أنا حق وما دونه باطل”، مقولة اعتمدها مشايخ حزب المصباح في خطاباتهم الانتخابية وخطبهم التحريضية وتوجيهاتهم السياسية، وهو مرض شقيق لمرض الطهرانية، يجعل صاحبه يعتقد أنه لا ينطق عن الهوى وكل ما يصرح به واقع وحقيقة مُعاشين، وبفضل هذا الخطاب استطاع البيجيدي استمالة قاعدة انتخابية كبيرة من خلال لعب دور الضحية “الذي يستهدفه الكل بمخططات شيطانية للقضاء عليه لأنه يقول الحقيقة ويفضحهم”.
استصغار واحتقار الخصوم
من أبرز ما ميز تعامل حزب العدالة والتنمية مع الفرقاء السياسيين بالمغرب هو التعامل معهم بمنطق فوقي واستصغارهم، بل وصل حد احتقارهم، كما فعل مع حزب الاتحاد الاشتراكي إبان تشكيل النسخة الثانية من الحكومة التي ترأسها المصباح.
تصرفه هذا عزله وجعله يغرد وحيدا خارج الصف، وخير تعبير عن ذلك ما وقع له إبان التصويت على تعديل القاسم الانتخابي، والذي لخصه أحد النواب البرلمانيين بالقول “ليس من مصلحة البعض (البيجيدي) معاداة الكل”، فلا عداء دائم ولا صداقة دائمة في السياسة بل مصلحة دائمة.
مرض البنكيرانية
وهو المرض الذي نخر جسم البيجيدي وأسقطه ارضا، حيت حول الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران إلى إله داخل الحزب، وأصبح رأيه يتجاوز قرارات المؤسسات، وراح أعضاء الحزب يدينون له بالولاء أكثر مما يدينون به لمؤسسات الحزب، الأمر الذي استغله بنكيران أبشع استغلال لتصفية حساباته الشخصية وتفريغ عقده النفسية تجاه قيادات الحزب ممن يخالفونه الرأي، وعمل بشكل أو بآخر على بث الفتنة بين صفوفه، وتصنيف أعضائه إلى جماعة ناجية وطائفة شيطانية، فوقع ما لم يكن بالحسبان، “واللي حفرو الجمل دكو بنكيران”.
ولا يسعنا في هذا الباب إلى الدعاء للبيجدي بالشفاء وتجاوز أزمته، فالساحة المغربية ليست في حاجة لمزيد من الخيبات، ونقول له ما قال الشاعر أبو البقاء الرّندي من مراثي الأندلس نظمها بعد سقوط آخر أراضي المسلمين في الأندلس.
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ *** فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ *** مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ