يتشكل جيل جديد من الشباب يعيش حالة اغتراب داخل وطنه، جيل تائه بين أسئلة لا يجد لها جوابًا، وأبواب مغلقة لا تفتحها لا المدرسة ولا الأسرة ولا الحكومة. شبابٌ يتنفسون السخط يوميًا، يهربون من واقعهم لا لأنهم منحرفون أو متمردون بطبيعتهم، بل لأن لا أحد أعطاهم بديلًا حقيقيًا. هم جيل يردد في سرّه وعلانيته: “أسوأ ما يمكن أن يشعر به الإنسان هو أن الأمل قد مات”. عبارة تختصر أزمة جيل كامل.
ليس الهروب دائمًا جغرافيًا. إنه هروب فكري وقيمي وسلوكي، لكنه أيضًا هروب واقعي. من هذا الجيل من يحاول عبور الأسوار إلى الضفة الأخرى، ومنهم من يعبر الأسوار الرمزية إلى عوالم أخرى: المخدرات، الانسحاب، اللامبالاة، العنف الرمزي في الأغاني، أو حتى العدمية الصريحة. حين يحاول آلاف الشباب التسلل إلى مدن الثغور المحتلة، أو الهجرة عبر قوارب الموت، فهم لا يفعلون ذلك فقط بدافع اقتصادي، بل لأنهم ببساطة فقدوا أي شعور بالانتماء لسياساتٍ لا تمثلهم ولا تحميهم ولا تصغي إليهم.
بحسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، هناك شريحة واسعة من الشباب المغربي تقع تحت تصنيف “NEET”، أي شباب تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، لا يدرسون، لا يعملون، ولا يتابعون أي تكوين مهني. هذا الجيل ليس حالة طارئة. إنه المنتوج الطبيعي لسياسات عمومية اختارت إنفاق المال على المظاهر بدل الجوهر، على الاستعراض بدل التعليم، على التسويق بدل الصحة، وعلى تسطيح الثقافة بدل تعميقها.
رغم الحديث الرسمي المتكرر عن “التحول الرقمي” و”النموذج التنموي الجديد”، لا تزال الأمية تضرب ربع المغاربة. إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط تؤكد أن 25% من المواطنين فوق سن العاشرة لا يقرأون ولا يكتبون. لكن ما لا تقوله الأرقام هو أن هذه الأمية ليست مجرد نقص في المهارات، بل أداة لإعادة إنتاج الفوارق الطبقية والتفاوتات الاجتماعية. في المغرب، الجغرافيا قدَر؛ من وُلد في قرية مهمشة أو حي هامشي، غالبًا سيجد نفسه خارج المدرسة مبكرًا، أو محاصرًا بمناهج لا تشجعه على التفكير، بل على الانسحاب.
ماذا تركت الحكومة لهذا الجيل؟ مدارس مهترئة لا تربي ولا تعلّم، تكوينات لا تقود إلى فرص عمل، سوق شغل مغلق في وجه أبناء الشعب ومفتوح للمحظوظين، فضاءات شبابية غائبة أو فارغة من المحتوى، إعلام رسمي يتحدث بلغة لا تمسهم، وثقافة تقوّم سلوكهم بدل أن تفهمهم. هذا الجيل يعيش خارج المؤسسات لأنه لم يجد مكانًا داخلها. وهو حين يحتج، لا يختار الصحف أو البلاغات الرسمية، بل يحتج بلغته الخاصة: عبر الموسيقى، والسلوك، وحتى الصمت أو الانسحاب.
الأسرة التقليدية التي كانت تؤطر الشباب لم تعد قادرة على الاستمرار في دورها القديم، والدولة لم تعوّض هذا الفراغ. النتيجة شباب يعيش في فضاء لا يجد فيه لا مرشدًا ولا موجهًا، بل فقط “الشارع الافتراضي” الذي يزوده بالهوية والقيم. وحين تُسأل الحكومة: لماذا لا تحتضن هؤلاء الشباب؟ يأتي الجواب في شكل بلاغات عن الأمن الذي أوقف مهاجرين سريين، أو عن ميزانيات صُرفت في تنظيم فعاليات استعراضية لا تغيّر شيئًا في واقعهم.
هذا الجيل هو ابن سياسات “العهد الجديد”، ليس فقط من حيث العمر، بل من حيث النشأة الاجتماعية والثقافية. هو الجيل الذي نشأ مع وعود الإصلاح الكبرى، لكنه وجد نفسه في واقع يرسّخ الهشاشة بدل تجاوزها. إنه جيل لم يكبر في هوامش المجتمع فحسب، بل صار الهامش هو المتن؛ هو الذي يصنع ثقافة الشارع اليوم، وهو الذي يعبّر عن رفضه بأشكال جديدة تتحدى كل القوالب الكلاسيكية.
في الأدب كما في الواقع، الشعوب التي لا تجد لنفسها تمثيلًا رسميًا في الخطاب السياسي أو الثقافي، تكتب نفسها بنفسها. وهذا الجيل كتب نفسه: بأغانيه، بلغته الخاصة، برموزه التي قد تزعج الذوق المحافظ، لكنها تعبّر عن جراح حقيقية. هذا الجيل لا يحتاج إلى محاكم التفتيش في أخلاقه، بل إلى سياسات اجتماعية تُنصت له بدل إسكاته. لا يحتاج إلى لجان لتقييم سلوكه، بل إلى تعليم حقيقي، وفرص عمل حقيقية، وعدالة اجتماعية تعيد له الثقة في مؤسسات الدولة.