تعيش الساحة السياسية المغربية منذ سنوات على وقع مشهد انتخابي يتسم بالتكرار نفسه: تعددية حزبية ظاهرية تقابلها هيمنة فعلية لعدد محدود من الأحزاب على مفاصل القرار والتمثيلية البرلمانية والمحلية. هذا المشهد يطرح تساؤلات جدية حول مدى نجاعة النموذج الديمقراطي المغربي، وجدوى التعددية الحزبية التي لا تنعكس فعليًا على نتائج صناديق الاقتراع.
في كل محطة انتخابية، يتكرر الحديث عن ظاهرة “المال الانتخابي”. عدد من الأحزاب باتت تراهن بشكل شبه حصري على أصحاب الثروات لترشيحهم، باعتبارهم قادرين على تمويل الحملات والدخول في سباق “شراء الأصوات”. فبدل أن يكون المال وسيلة لدعم العملية الانتخابية بطريقة شفافة، تحول إلى أداة للفساد السياسي، يُقصي الكفاءات الحقيقية ويُفسح المجال أمام من يملكون القدرة على الدفع لا على الإقناع أو التأطير.
في ظل هذا الواقع، تجد العديد من الأحزاب التي تتوفر على أطر وكفاءات سياسية ومجتمعية نفسها عاجزة عن تحقيق نتائج جيدة، لأن المنافسة في بعض الدوائر لم تعد قائمة على البرامج أو الكفاءات، بل على “الزبونية الانتخابية” وشراء الولاءات.
لا يمكن الحديث عن هذا الوضع دون تحميل المواطن جزءًا من المسؤولية. فحين يرضى البعض ببيع صوته مقابل قسط من المال، فإنه يساهم بشكل مباشر في إعادة إنتاج الفساد السياسي، ويفرط في حقه الطبيعي في اختيار ممثليه عن قناعة وبرامج واضحة. الظاهرة تحولت إلى ما يشبه “تعاقدًا غير معلن” بين بعض الناخبين ومرشحين لا يملكون من الكفاءة سوى قدرتهم على الدفع.
هذا السلوك يخلق حلقة مفرغة: من يدفع المال للوصول إلى السلطة لا يرى نفسه ملزمًا بخدمة من انتخبوه، لأنه يعتبر ما قام به “صفقة تجارية” لا علاقة لها بالمحاسبة أو البرامج.
من جهة أخرى، هناك فئة واسعة من المغاربة تفضل العزوف عن التصويت، إما بسبب فقدان الثقة في العملية السياسية برمتها، أو بسبب قناعة راسخة بأن “الأمور محسومة مسبقًا”. لكن هذه المقاطعة، رغم أنها قد تبدو موقفًا احتجاجيًا مشروعًا، تُفسح المجال أكثر أمام مرشحي المال ليحسموا نتائج الانتخابات بأريحية، في ظل غياب تصويت مضاد قد يأتي بالكفاءات.
الوضع الحالي يعكس أزمة سياسية مركبة تتجاوز مجرد تنظيم انتخابات كل خمس سنوات. إنها أزمة تتعلق بثقافة سياسية مشوهة، وبمنظومة انتخابية تحتاج إلى إصلاح جذري، بدءًا من تجفيف منابع الفساد الانتخابي، وتفعيل الآليات القانونية لردع شراء الأصوات، ومرورًا بتشجيع الأحزاب على ترشيح الكفاءات بدل أصحاب المال، وانتهاءً بإعادة بناء الثقة بين المواطن والعمل السياسي.
تعددية الأحزاب في المغرب لم تنجح بعد في خلق تعددية سياسية فعلية في مخرجات العملية الانتخابية. المشهد اليوم هو مشهد انتخابات تتحكم فيها جيوب المال أكثر مما تحكمها الكفاءة أو البرامج. أما المواطن، فهو إما شريك في هذه المنظومة بالبيع والشراء، أو مساهم غير مباشر حين يفضل العزوف. وبين هذا وذاك، يظل الإصلاح ضرورة ملحة حتى لا تتحول الديمقراطية إلى مجرد واجهة بلا مضمون.