التأويل الديني والمواجهة المستمرة مع المعاني

1

عندما وصفَ المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد الحضارة العربية الإسلامية بأنها “حضارة نص”، كان يدرك أهمية الخطاب الإلهي في حياة المسلمين، وكان يعرف ما الذي تعنيه الكلمة؛ كلمة الله التي دخلت مجال البشر واستقرت فيه، فأصبحت المحور الذي تدور في فلكه حركيتهم، ونزوعهم-الذي لم ينقطع-من أجل كشف الغلالات الكثيفة عن تلك الكلمة / الكلام، بغية فهمه، والوقوف على معانيه، وتأمّل بيانه الذي لا يماثله أيُّ بيان لغوي آخر.

وبالكلمة الإلهية أدغم الوحي بالتاريخ من خلال رسالة النبي الذي أقام جسراً بين الإلهي والبشري، عبر الخطاب القرآني الذي أضحى حدثاً فريداً في حياة البشرية، كما منح اللغة العربية التي تنزّل بها امتيازاً، وخلع عليها قداسة، وحفظها من النسيان والذوبان والتلاشي.

لقد أضحى القرآن أساسَ الإسلام وروحه، وهو الأثر الإلهي الذي نزل به الوحي إلى النبي الإنسان الذي نقله بدوره إلى البشر. واستغرقت عملية انكشاف الوحي على النبي وتلقي الرسالة الإلهية بضعة وعشرين عاماً، شهدت انتشار الإسلام، وتشكل الدولة، وامتداد نفوذها وسلطانها.

- الحدث بريس-

- الحدث بريس-

- الحدث بريس-

وإن يكُ لكل نبي من الأنبياء معجزة، روى من جاء بعدهم أنهم تميزوا بها، فإن المعجزة الكبرى للنبي محمد هي القرآن، لذا راح الفقهاء والأدباء والبلاغيون والمتكلمون يجتهدون في الكشف عن دلائل الإعجاز في القرآن، وذهبوا، في تبيان ذلك، مذاهب شتى، كان من بينها “القول بالصَّرفة”، أي أن الإرادة الإلهية تدخلت فمنعت الإتيان بشيء مِن مِثل القرآن.

و”القول بالصَّرفة” كان أحد تجليات العقل المعتزلي الذي توسل بالتأويل العقلي من أجل الرد على الطاعنين بطبيعة القرآن ومصدره الإلهي، إذ يذهب هذا القول إلى أن المعجزة ليست في القرآن ذاته، بل في صرف أو “تعجيز” العرب، بتدخل من الله، عن الإتيان بمثل هذا الخطاب.

ولم يصمد طويلاً “القول بالصرفة”، بعدما جاء عبد القاهر الجرجاني بنظرية “النظم” التي كشف فيها عن أن إعجاز القرآن كامن في أنه نص لغوي أدبي بامتياز، وأنه استثمر قوانين اللغة والبلاغة في أقصى مستوياتها، وعلى نحو غير مسبوق. ومع ذلك، فقد راح بعض النقاد، من بينهم إحسان عبّاس، يبدون عدم اقتناعهم بالتسويغ المنطقي الذي قدمه الجرجاني في نظرية “النظم”.

وجاء، بعد المعتزلة، متصوفة ومتكلمون وفقهاء وفلاسفة واصلوا النظر في الخطاب القرآني، الذي هو خطاب مركزي شغل، وما يزال، الفضاءَ الإسلامي والكوني، وشرّع المدى واسعاً أمام أفهام البشر، على مر التاريخ، من أجل قراءته على نحو متجدد، والنَّهل من طاقته الدلالية الخصبة، من دون الإخلال بماهيته الإيمانية، أو التشكيك في العقائد والأصول.

في غمرة هذا السياق الطويل والمتشعب، مضى (أبو زيد) يتتبع تحولات المعنى في الفضاء الإسلامي، إذ أطل على مأزق التأويل الذي وقع فيه المفسرون الأوائل للقرآن، وهو مأزق ارتدى، فيما بعد، لبوساً كلامياً على يد المعتزلة الذين خاضوا مواجهة، مع أنصار التيار الحَرْفي في التأويل، من أجل الحفاظ على الطابع الإيماني للقرآن، متوسلين بالتأويل المجازي لكل ما يتناقض مع النص القرآني.

وقد أفضت المواجهة تلك إلى بروز ثنائية الظاهر والباطن في النظر إلى الخطاب القرآني، فضلاً عن ثنائية التنزيه والتشبيه التي هي وجه من وجوه ثنائية المحكم والمتشابه، والعقل والشريعة، واختلف المعتزلة مع الأشاعرة في تأويل آيات الصفات الواردة في القرآن، وتركز الخلاف، بصفة خاصة، حول تأويل خلق الأفعال وحرية الإنسان.

ولئن كان العقل هو مرجعية المعتزلة للاستدلال المعرفي، وَفق مقتضيات المنطق، فقد كان الحدس هو سبيلَ المتصوفة للبحث عن المعنى الديني، إذ كشف (أبو زيد) عن محاولات المتصوفة، وممثلهم الأبرز ابن عربي، لحيازة المعنى الديني في جوانبه الوجودية والمعرفية التي تتعدى النظرة الروحية للانفصال عن الواقع والسباحة في الكون.

وكما قدم المفسرون الأوائل نظرتهم البعيدة عن النزعة التركيبية للخطاب القرآني، فعل المعتزلة الأمر ذاته بمستوى تأويلي متقدم شاركهم فيه الأشاعرة، ثم جاء المتصوفة واقترحوا تأويلاً للخطاب يقوم على “رمزنة” الوجود، تحقيقاً للمعنى الإيماني الأقصى الثانوي في النص الديني، واستنباط الأبعاد الإشارية والدلالات الكامنة فيه.

إذن، كان (أبو زيد) في مواجهة مستمرة مع المعاني التي يقترحها مؤولو الخطاب القرآني، ومن بعدهم مؤولو الخطاب الديني. وتجلت هذه المواجهة حينما انتقل (أبو زيد) إلى مركز “الإشكال” الديني، وتصدى لتأويل الخطاب القرآني بأدوات لا تقطع الصلة بفتوحات التأويل المجازي المعتزلي، والرمزي التصوفي، والبرهاني الفلسفي، فراح يبني على تلك التصورات المنهجية ويعضدها بأخرى مستقاة من المنهجيات الحديثة، من أجل بلورة مفاهيم تأويلية تنظر إلى الخطاب القرآني بصفة خاصة، والديني بصفة عامة من زاوية معاصرة تغني دائرة الإيمان وتعززها.

وكان (أبو زيد) يدرك أن المواجهة مع الخطابات الدينية تقتضي، حتى تُحقق أهدافها المعرفية، أن يتم تأويل تلك الخطابات في سياق تشكلاتها التاريخية والاجتماعية، لذا راح يتصور الخطاب القرآني على أنه “منتج ثقافي”، بمعنى أنه تشكل في الواقع والثقافة.

ويحاذر (أبو زيد)، الذي يقترح منهجاً تأويلياً علمياً في النظر إلى الخطاب القرآني، المسَ بالطبيعة الإيمانية لمصدر الخطاب، إذ يؤكد أن “الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثَمَّ لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمرٌ لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها”.

إن وضع الخطاب القرآني في السياق التاريخي للفعالية الاجتماعية والبشرية التي يتوجه إليها، يستدعي مسبقا الإقرار بأن لمستقبِل الخطاب الحقَ في فهمه في ضوء المعطيات الثقافية والتاريخية للحظة انبثاق الوحي وتنزّله. فالله، حينما أوحى للنبي بالقرآن، اختار النظام اللغوي الخاص لتحقيق هذا الغرض، إذ يعتقد (أبو زيد) بأن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه. وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن من ثَمَّ أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع أيضا، طالما أنه نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة.

ويحرص (أبو زيد) ألا ينشأ تعارض منطقي بين ألوهية النص، وواقعية محتواه، وانتمائه إلى أفق الفهم البشري، إذ إن القرآن يصف نفسه بأنه رسالة، وبالتالي فإن الرسالة “تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبِل من خلال شفرة، أو نظام لغوي. ولما كان المرسِل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضوعاً للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخلَ الواقع والثقافة، الواقع الذي ينظم حركة البشر المخاطَبين بالنص، وينظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة”.

بيْد أن كون الخطاب القرآني منتَجَاً ثقافياً في البداية، لا يعني أنه لم يتحوّل إلى منتِج ثقافي، نظراً لعلاقة التفاعل الجدلي بين الخطاب والواقع. وهاتان المرحلتان لا تنطويان على إجحاف للمصدر المتعالي للخطاب الإلهي الذي دخل عبر النبي “حيز اللغة البشرية”، كما يقول المفكر الإيراني محمد مجتهد شبستري، وبالتالي أضحى من الممكن فهم الخطاب القرآني من خلال المعايير الموجودة لفهم البشر.

ولا يخرج (أبو زيد) عن دائرة الحِجاج الإيماني في تدعيم أسس أطروحته التي يتصدى فيها لتحديد مفهوم الخطاب القرآني، إذ يرى أنه ما دام أن القرآن يقول في (الآية 4 من سورة إبراهيم) “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”، فمعنى ذلك أن “لغة القرآن الكريم تستمد مرجعيتها من اللسان العربي بصفة عامة، ومن إطاره التداولي التاريخي في جزيرة العرب قبل الإسلام بصفة خاصة” ، وبالتالي فإن انتشار نطاق الدعوة الإسلامية، التي عمادها القرآن، اقتضى أن تكتسب لغة الخطاب القرآني، بما هي في الأغلب لغة إجمالية، معانيَ جديدة أحدثت تحولات دلالية في بنية اللغة الأم.

بقلم موسى برهومة / قسم الدراسات الدينية.


الدكتور موسى برهومة:

كاتب وإعلامي أردني. حاصل على دكتوراه في الفلسفة من الجامعة الأردنية عمان. مراسل في شؤون السياسة والثقافة والقضايا الاجتماعية في عدة صحف ومجلات. رئيس تحرير صحيفة الغد اليومية الأردنية 2008- يوليوز 2010. نشر له كتاب “هذا كتابي- نصوص نثرية” وكتاب”التراث العربي والعقل المادي”. صدر له كتاب “الناطقون بلسان السماء” عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 2013، وهو رئيس تحرير مجلة ألباب التي تصدرها مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

تعليق 1
  1. د. سامي عطا الله يقول

    ماركسي مأزوم يلعب على كل الحبال

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.