الجماعات الترابية بين سوء التدبير وانتظارات الساكنة

0

الجماعات الترابية في المغرب تُعتبر بحق حجر الزاوية في البناء الديمقراطي المحلي، فهي الإطار الأقرب إلى المواطن والمسؤولة عن تدبير تفاصيل حياته اليومية من طرق وإنارة ونظافة وخدمات اجتماعية وثقافية. لكن، ورغم المكانة التي خُصصت لها دستورياً، لا تزال المسافة شاسعة بين النصوص التي منحتها صلاحيات واسعة بعد دستور 2011 وبين الممارسة الفعلية التي تكشف عن اختلالات هيكلية عميقة، جعلت عدداً من الجماعات عاجزة عن تلبية تطلعات الساكنة، التي تراكمت مطالبها وانتظاراتها سنة بعد أخرى.

لقد جاء دستور 2011 ليُعلن بداية مرحلة جديدة قوامها التدبير الحر والجهوية المتقدمة وربط المسؤولية بالمحاسبة. غير أن مرور أكثر من عقد لم يكن كافياً لترجمة هذه المبادئ إلى واقع ملموس. فالحصيلة في عدد كبير من الجماعات، خاصة في الوسط القروي وشبه الحضري، ظلت محدودة ومتواضعة. يكفي أن نسائل وضع البنيات التحتية أو جودة الخدمات الأساسية لندرك حجم الهوة بين النصوص والطموحات من جهة، وبين الممارسة اليومية من جهة أخرى.

مظاهر سوء التدبير كثيرة ومتنوعة. فغياب رؤية استراتيجية بعيدة المدى يجعل البرامج التنموية رهينة قرارات آنية أو مواسم انتخابية. كما أن ضعف الحكامة المالية يستهلك ميزانيات ضخمة في نفقات التسيير والرواتب على حساب الاستثمار المنتج القادر على خلق الثروة. هذا إلى جانب خصاص واضح في الكفاءات الإدارية والتقنية، إذ ما تزال بعض الإدارات المحلية غارقة في البيروقراطية ومحدودة في خبراتها، الأمر الذي يعرقل القدرة على إنجاز مشاريع مهيكلة أو صياغة مخططات تنموية متكاملة. والأدهى من ذلك أن الزبونية والمحسوبية تجد أحياناً مكانها في تدبير الشأن العام المحلي، فتُصبح القرارات خاضعة لحسابات انتخابية ضيقة بدل أن تكون استجابة لحاجيات الساكنة.

في المقابل، يطالب المواطنون بأبسط الحقوق: طرق معبدة، إنارة مستمرة، أحياء نظيفة، شبكات صرف صحي عصرية، وخدمات أساسية تحفظ الكرامة. لكنهم أيضاً يطمحون إلى أكثر من ذلك. يريدون مبادرات تُشجع على خلق فرص الشغل، وتدعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتستثمر في الطاقات الشابة. كما أنهم يطالبون بالشفافية في تدبير المال العام، وبآليات واضحة لنشر المعلومات حول الميزانيات والصفقات. الدستور منحهم الحق في المشاركة من خلال الديمقراطية التشاركية، لكن هذا الحق لم يتحول بعد إلى ممارسة واسعة وفعالة.

الأزمة ليست مرتبطة فقط بنوايا المنتخبين أو ضعف إرادتهم، بل هي نتيجة تشابك عوامل بنيوية. فالموارد المالية للجماعات هشة في معظمها، وتعتمد بشكل كبير على التحويلات من الدولة، ما يجعلها مقيدة بإمكانيات محدودة. كما أن الاختصاصات بين الدولة والجماعات ما تزال غير واضحة بما يكفي، وهو ما يخلق ارتباكاً في المسؤوليات ويؤدي في حالات عديدة إلى تعطيل المشاريع أو تكرارها بشكل غير مُجدٍ. يضاف إلى ذلك محدودية الثقافة التشاركية سواء لدى المنتخبين الذين لم يعتادوا بعد على إشراك المواطنين في القرار، أو لدى المواطنين الذين ما زالوا بعيدين عن استعمال الآليات القانونية الممنوحة لهم، فضلاً عن ضعف تكوين عدد من المنتخبين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة ملفات مالية وعمرانية معقدة دون أن يتوفروا على الخبرة الكافية.

أمام هذا الواقع، يصبح الإصلاح خياراً لا مفر منه. الإصلاح يبدأ بتقوية مالية الجماعات عبر تطوير الجبايات المحلية واعتماد الرقمنة في التحصيل لمواجهة التهرب والرفع من المردودية، إلى جانب استثمار ممتلكات الجماعة بشكل عقلاني وعقد شراكات مع القطاع الخاص لإنجاز مشاريع مهيكلة. لكنه أيضاً يمر عبر تأهيل العنصر البشري، من خلال التكوين المستمر للمنتخبين والموظفين، واستقطاب كفاءات جديدة قادرة على منح نفس مختلف للتسيير المحلي.

الشفافية والحكامة الجيدة شرط لا غنى عنه. فلا يمكن الحديث عن ثقة المواطنين في مؤسساتهم إذا لم تُنشر المعطيات المتعلقة بالميزانيات والصفقات بشكل دوري، وإذا لم تُفعّل الرقابة الجادة وربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يُغلق أبواب الهدر وسوء الاستعمال. كما أن إشراك المواطنين والمجتمع المدني في بلورة البرامج التنموية يعزز فعاليتها ويضمن أن تستجيب فعلاً للحاجيات الواقعية.

ومن زاوية أخرى، فإن العلاقة بين الدولة والجماعات بحاجة إلى إعادة ضبط. فالتداخل في الاختصاصات يضعف النجاعة، والعدالة في توزيع الدعم العمومي تظل مفتاحاً لتحقيق التوازن بين الجهات والمجالات. لا معنى لجهوية متقدمة إذا استمرت الهوة بين المدن الكبرى والمناطق القروية المهمشة، أو إذا بقيت بعض الجماعات تعاني من ضعف الإمكانيات إلى درجة العجز عن تقديم خدمات أساسية لساكنتها.

اليوم تقف الجماعات الترابية أمام مفترق طرق. إما أن تستمر في الدوران داخل حلقة مفرغة من سوء التدبير وضعف الحكامة وفقدان الثقة، وإما أن تتحول إلى فاعل حقيقي في التنمية المحلية، يخطط بذكاء ويُبدع في الحلول ويضع المواطن في صلب أولوياته. الرهان هنا ليس تقنياً فقط، بل هو رهان سياسي وديمقراطي وتنموي بامتياز، لأن مستقبل المغرب لن يُبنى بسياسات مركزية وحدها، بل بجماعات قوية قادرة على التجاوب مع انتظارات الناس وصناعة الأمل محلياً.

إن نجاح هذه الجماعات في التحول نحو مؤسسات ناجعة وشفافة ليس مجرد تفصيل إداري، بل هو اختبار حقيقي لقدرة المغرب على تنزيل مشروعه الديمقراطي والتنموي. وحين تصبح خدمة المواطن فعلاً جوهر العمل الجماعي، يمكن حينها القول إن الجهوية المتقدمة قد تجاوزت مرحلة الشعارات لتتحول إلى واقع يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم اليومية.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد