الحدث بريس…ادريس بوداش
تمثل السياسات العمومية العمود الفقري لأي دولة حديثة، فهي مجموعة الإجراءات والخطط التي تعتمدها الحكومة لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية وضمان تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. في المغرب، أصبحت هذه السياسات أداة أساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، تعزيز التنمية المستدامة، وتقليص الفوارق المجالية بين الجهات. نجاح أي سياسة عمومية يقاس بمدى تأثيرها الفعلي على حياة المواطنين، وليس بمجرد صدور القوانين أو البرامج.
التعليم والسياسات العمومية: الاستثمار في المستقبل
يعد التعليم من أبرز محاور السياسات العمومية في المغرب، حيث يمثل الاستثمار في المدرسة العمومية أساس التنمية البشرية. السياسات التعليمية الفعالة تركز على رفع جودة التعليم، تأهيل المعلمين، وتوفير البنية التحتية اللازمة في المناطق الحضرية والقروية على حد سواء. وفق بيانات وزارة التربية الوطنية، لا يزال عدد المدارس التي تعاني من نقص التجهيزات مرتفعًا، بينما نتائج المغرب في اختبارات PISA تشير إلى الحاجة الملحة لإصلاح المناهج وربطها بالمهارات العملية. التعليم العمومي الجيد لا يقتصر على الفصول الدراسية، بل يمتد ليشمل فرص التدريب المهني والابتكار وريادة الأعمال، ما ينعكس بشكل مباشر على سوق الشغل المغربي ويحفز النمو الاقتصادي.
الصحة العمومية: مؤشر قوة السياسات الحكومية
تشكل الصحة العمومية ركيزة أساسية للسياسات العمومية الفعالة. مع كثافة أطباء تبلغ حوالي 8 لكل 10 آلاف نسمة، يواجه المغرب تحديات كبيرة في توفير خدمات صحية متساوية الجودة لجميع المواطنين، خصوصًا في المناطق القروية. السياسات الصحية الناجحة تشمل تحسين جودة الخدمات، توزيع الموارد بشكل عادل، وتطوير البنية التحتية الرقمية لتسهيل الوصول إلى الخدمات الصحية. كما أظهرت جائحة كورونا الحاجة إلى سياسات صحية متكاملة لضمان الوصول الشامل للرعاية الصحية وحماية المواطنين.
الاقتصاد وسوق الشغل: ركيزة الاستقرار الاجتماعي
تلعب السياسات الاقتصادية دورًا حاسمًا في تحسين معيشة المواطنين. تنظيم سوق الشغل، دعم الابتكار، وتشجيع الاستثمار هي أدوات الحكومة لتعزيز النمو وخلق فرص عمل نوعية. المغرب يواجه تحديًا مزدوجًا يتمثل في تقليص البطالة في المغرب وخصوصًا بين الشباب والنساء، مع ضمان العدالة المجالية بين الجهات. تشير بيانات المندوبية السامية للتخطيط إلى أن معدل البطالة الإجمالي بلغ 12.8%، فيما تجاوزت بطالة الشباب 35.8%، وهو مؤشر على الحاجة إلى سياسات حكومية مركزة وفعالة في خلق فرص العمل.
الأمن الغذائي والمائي: تحديات استراتيجية للسياسات العمومية
أصبح الأمن الغذائي والمائي من أهم أولويات السياسات العمومية في المغرب، خصوصًا في ظل التغيرات المناخية والجفاف المتكرر. انخفاض نسبة ملء السدود إلى حوالي 30%، وارتفاع أسعار الحبوب والمنتجات الغذائية، يضع الحكومة أمام تحدٍ حقيقي لتأمين الموارد الغذائية والمائية. السياسات الفعالة تتطلب إدارة مستدامة للموارد، دعم الإنتاج الفلاحي المحلي، وتنظيم الأسواق لضمان أسعار عادلة واستقرار المجتمع.
الحماية الاجتماعية: ضمان العدالة وتقليص الفوارق
تمثل الحماية الاجتماعية أداة مركزية للسياسات العمومية، إذ تهدف إلى دعم الفئات الهشة والمحرومة. المغرب أحرز تقدماً ملموساً، مع تغطية صحية لما يقارب 25 مليون مواطن، ودعم مباشر لما يزيد عن 3.9 مليون أسرة. نجاح هذه السياسات لا يقاس بعدد المستفيدين فقط، بل بمدى جودة الخدمات، كفاءة التوزيع، واستدامة التمويل، بالإضافة إلى ربط الدعم بالسجل الاجتماعي الموحد لضمان وصوله للمستحقين.
الطاقات المتجددة والتحول الصناعي: فرص للنمو المستدام
يشكل قطاع الطاقات المتجددة في المغرب نموذجًا إقليميًا للسياسات العمومية الفعالة، حيث بلغت نسبة الطاقة النظيفة من القدرة المركبة حوالي 45%. التحدي يكمن في تحويل هذه الإمكانيات إلى فرص حقيقية للنمو الاقتصادي والتشغيل، خصوصًا للشباب والنساء، عبر ربط مشاريع الطاقة بالتصنيع المحلي، وتعزيز البحث العلمي وتطوير صناعة الهيدروجين الأخضر. سياسات الطاقات المتجددة الناجحة تساهم في تقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة، وتدعم التنمية المستدامة على المدى الطويل.
التحديات الكبرى: ربط الخطط بالنتائج
تواجه السياسات العمومية في المغرب تحديات مستمرة مثل عدم المساواة بين الجهات، محدودية الموارد المالية، ضعف التنسيق بين القطاعات، وصعوبة قياس الأثر الفعلي للبرامج. الحل يكمن في تبني عقود جهوية ذكية تربط التمويل بالنتائج، مع منح السلطات المحلية استقلالية أكبر في التنفيذ، وتعزيز الرقابة والمتابعة لضمان فعالية المشاريع وتحقيق النتائج المرجوة.
المواطن ومؤشر نجاح السياسات العمومية
المواطن هو المقياس الحقيقي لأي سياسة عامة. جودة التعليم، وصول الخدمات الصحية، توافر فرص العمل، استقرار الأسعار، والأمن الغذائي والمائي، كلها مؤشرات يقيّم على أساسها أداء الحكومة. أي سياسة تفشل في تحسين هذه الجوانب تفقد مصداقيتها بسرعة، بينما السياسة الناجحة هي التي تترجم التوجيهات إلى تحسين ملموس ومستدام لحياة المواطنين، مما يعزز الثقة بين الدولة والمجتمع ويخلق بيئة مواتية للنمو الاقتصادي والاجتماعي.
الخلاصة: السياسات العمومية بين التحدي والفرصة
السياسات العمومية ليست مجرد إجراءات إدارية، بل أدوات أساسية لتحقيق التنمية والاستقرار الاجتماعي. نجاحها يعتمد على قدرة الحكومة على الاستجابة لاحتياجات المواطنين، تحويل الخطط إلى برامج فعلية، ربط التمويل بالنتائج، وضمان استدامة الموارد وكفاءة التنفيذ. الدول التي تنجح في هذه السياسات تعزز الثقة بالمؤسسات وتخلق فرصًا للنمو المستدام، بينما الفشل يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية وارتفاع الضغط الشعبي والسياسي.