منذ سنوات، أصبحت السياسة في المغرب مجالًا لا يحظى بالكثير من الاهتمام، بل تحولت إلى مصدر خيبة أمل كبيرة للمواطنين. كان المغاربة في وقت مضى متحمسين للمشاركة في الحياة السياسية، حيث كان النقاش حول الشأن العام يعمُّ كل مجال من مجالات الحياة.
اليوم، تتزايد مشاعر الإحباط والخذلان من السياسيين والمشهد السياسي ككل، حتى أن العديد من الناس باتوا يرفضون الخوض في أي حديث متعلق بالسياسة. كما يقول أحد الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي في تدوينته: “الكلام عن السياسة أصبح وكأنه حديث خارج التاريخ”، إذ أصبح السياسيون في نظر المواطنين مجرد أشخاص فقدوا قدرتهم على التغيير وقلصوا من آمال الناس في بناء ديمقراطية حقيقية.
لا شك أن الفساد السياسي في المغرب قد بلغ مستويات غير مسبوقة، مهددًا مصير المؤسسات الديمقراطية ومصداقيتها. هذا الفساد أصبح يحاصر كل جوانب الحياة اليومية للمواطنين، سواء في مؤسسات الدولة أو في القطاع الخاص، ليجعل من محاربته معركة ضائعة وسط هيمنة مصالح متشابكة ومترابطة.
منذ سنوات، بدأ الحديث عن الفساد في المغرب بشكل متسارع، لكن الوضع بقي كما هو، بل إن البعض يعتبر أن هناك تراخيًا متعمدًا في مواجهة هذه الآفة. في السنوات الأخيرة، أظهرت التقارير والأرقام الرسمية عمق الأزمة التي يعيشها المغرب على صعيد مكافحة الفساد. ففي أكتوبر من السنة الماضية، خرج البشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، بتصريح خطير كشف فيه أن كلفة الفساد في البلاد تتجاوز 50 مليار درهم سنويًا. ورغم أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وضعت هدفًا لتقدم المغرب بـ23 نقطة في مؤشر إدراك الفساد، إلا أنه لم يتم تحقيق سوى نقطة واحدة فقط. وعلق الراشدي على هذه الأرقام بالقول: “الفساد عمّ البر والبحر في البلاد”.
هذه التصريحات كانت صادمة، ومع ذلك لم تتحرك الحكومة بشكل جاد لمكافحة الفساد. بدلًا من ذلك، تم استهداف الراشدي بعد تصريحاته، وزادت المؤشرات على أن محاربة الفساد ليست أولوية على جدول أعمال الحكومة الحالية. فبينما كان الراشدي يُعلن عن فشل الحكومة في مكافحة الفساد، كان هناك من يحاول إسكات صوته وتجاهل تقاريره.
لا يمكن إغفال أنه في تلك اللحظة، أصبح واضحًا أن الرجل دخل في مرمى الانتقادات، بما في ذلك الاستهداف لشركة هو مساهم فيها، في تطور مثير للريبة. ولعل هذا يثير السؤال الذي طرحه الكثيرون: هل طلب الراشدي الإعفاء بعد فشله في إقناع حكومة رجال الأعمال بشيء اسمه النزاهة؟ أم جرى الاستغناء عنه بتوصية من المتضررين من تقاريره؟ في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة: محاربة الفساد والرشوة ليست على جدول أعمال هذه الحكومة.
وفي هذا السياق، يشير مراقبون إلى أن الحكومة الحالية لا تولي اهتمامًا حقيقيًا لمحاربة الفساد. العشر الأواخر من رمضان، التي كانت تحمل في طياتها حدثًا مهمًا لرئيس الحكومة، عزيز أخنوش، لا يمكن فصلها عن هذا السياق، حيث أن الشخصيات التي كانت تزعج راحة الحكومة مثل البشير الراشدي، أحمد الحليمي، ورضى الشامي، قد تم إبعادهم بشكل أو بآخر. هؤلاء كانوا يمثلون أدوات رقابية حقيقية تزعج أصحاب المصالح الخاصة الذين يتحكمون في مقاليد السلطة.
وفي هذه الأجواء، أصبح واضحًا أن محاربة الفساد في المغرب ليست على رأس الأولويات، بل يبدو أن الأمر أصبح مجرد شعار يرفعه البعض في الخطابات الرسمية. فكيف لحكومة يهيمن فيها رجال الأعمال على وزارات ومؤسسات أن تتحدث عن محاربة الفساد؟ كيف لحكومة سحبت تجريم الإثراء غير المشروع من القانون الجنائي أن تجلس مع جمعية “ترانسبرانسي” للمطالبة بشفافية؟ بل كيف لحكومة منعت الجمعيات من التبليغ عن الفساد ومنعت النيابة العامة من التحقيق في قضايا المال العام أن تتحدث عن محاربة الفساد؟
هذه أسئلة تثير حيرة الكثيرين، ويبدو أن الإجابة عنها واضحة: الحكومة الحالية ليست جادة في محاربة الفساد، بل تتبنى سياسات غير واضحة تهدف إلى حماية مصالح من هم في السلطة. وفي الوقت الذي نرى فيه أن الصحافة الاستقصائية تُواجه صعوبة كبيرة في القيام بدورها، وأن المجتمع المدني بات محاصرًا بالمحاكمات، يبقى المواطن المغربي الضحية في هذا الواقع المعقد.
الأمم المتحدة توصي بمحاربة الفساد عبر أربع آليات رئيسية: الحق في الوصول إلى المعلومة، حرية الإعلام وصحافة التحقيق، دعم المجتمع المدني، وتطوير العدالة واستقلال القضاء. لكن في المغرب، يبدو أن هذه المعايير غير موجودة أو معطوبة. فالقانون الذي يضمن الوصول إلى المعلومات تم تقييده بشكل كبير، وأصبح الصحافيون الذين يحاولون كشف الحقائق مستهدفين بشدة. كما أن المجتمع المدني يعاني من التضييق عليه.
لقد انسحبت “ترانسبرانسي المغرب” قبل عدة أشهر من اللجنة التي كانت برئاسة الحكومة لمحاربة الفساد، احتجاجًا على تجميد نشاطها. لم يتم عقد أي اجتماع مع رئيس الحكومة على مدار ثلاث سنوات، مما يعكس عدم الجدية في التعامل مع موضوع الفساد. فكيف لحكومة تضارب المصالح أن تتبنى سياسة مكافحة الفساد؟ كيف يمكن لها أن تروج لمفاهيم الشفافية والنزاهة في ظل هذه الظروف؟
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن الفساد السياسي في المغرب ليس ظاهرة جديدة. فقد كان من أبرز من تناول هذا الموضوع في كتبهم ومؤلفاتهم، مثل السلطان عبد الحفيظ في كتابه “داء العطب القديم”، الذي أرجع تدهور الوضع السياسي في المغرب إلى “فساد العقلية” بين بعض الطبقات السياسية والاجتماعية. السلطان لم يكتفِ فقط بالحديث عن فساد رجال السلطة والأعيان في فترته، بل أشار إلى أن حب الدنيا والمال على حساب المصلحة العامة كان أحد العوامل الرئيسة التي قادت المغرب إلى الانهيار السياسي والاجتماعي في فترات مختلفة.
إن الطريق نحو دولة ديمقراطية حقيقية يبدأ من محاربة الفساد بشكل جذري، وإنهاء حالة الفوضى السياسية التي تسيطر على البلاد. إذ لا يمكن بناء دولة حديثة بدون بناء مؤسسات قوية وفعالة، وبدون الثقة المتبادلة بين المواطنين والساسة. ما نحتاجه الآن هو إحياء الوعي السياسي لدى الشباب، وتوفير بيئة نزيهة تشجعهم على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، لا أن نسمح للفساد بأن يستمر في تفريغ السياسة من معناها
في الأخير يبدو أن الفساد أصبح جزءًا من اللعبة السياسية ، وأن محاربته تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية بعيدًا عن الحسابات الضيقة. وإذا كانت الأمم المتحدة قد وضعت معايير دولية لمكافحة الفساد، فهل يمكن أن يتجاوب المغرب مع هذه المعايير، أم أنه سيظل في دائرة الفشل والعجز عن تطبيقها.