المدرسة العمومية بين وعود الإصلاح وتدهور المؤشرات: من يتحمل مسؤولية هجرة الثقة نحو التعليم الخصوصي؟

مراقب سياسي13 دجنبر 2025
المدرسة العمومية بين وعود الإصلاح وتدهور المؤشرات: من يتحمل مسؤولية هجرة الثقة نحو التعليم الخصوصي؟

تعيش المدرسة العمومية في المغرب مفارقة حادة بين إصلاحات متعاقبة وخطط إستراتيجية طموحة، مقابل مؤشرات تعلّم متدنية وتنامٍ مضطرد في الإقبال على التعليم الخصوصي من طرف الأسر التي تستطيع دفع الثمن. السؤال لم يعد هل توجد أزمة، بل من يتحمل مسؤولية “هجرة الثقة” من المدرسة العمومية، وكيف تحولت وعود الإصلاح إلى واجهة تخفي تعمّق الفوارق التربوية والاجتماعية.

إصلاحات متلاحقة… وأزمة جودة مزمنة

منذ “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” وصولا إلى الرؤية الإستراتيجية 2015–2030 والقانون الإطار 51.17، قُدمت المدرسة العمومية كـ”أولوية وطنية” وبوصفها رافعة للتنمية والعدالة الاجتماعية. الرؤية 2015–2030 أكدت على تعميم الإنصاف وتحسين جودة التعلّم وربط المدرسة بسوق الشغل، فيما جاء القانون الإطار ليترجم هذه الأهداف إلى التزامات قانونية، خاصة فيما يتعلق بمجانية التعليم الإلزامي وتنويع مسالك التكوين وتحسين حكامة المنظومة.

على مستوى الأرقام، تحقَّق تقدم لا يمكن إنكاره في التمدرس: تقارير تحليلية تشير إلى أن نسبة التمدرس الصافي في الابتدائي بلغت حوالي 97% وأن نسبة معرفة القراءة والكتابة لدى الشباب وصلت إلى قرابة 98%، ما يعكس نجاحاً كمياً في تعميم الولوج. لكن هذا التوسع في “الكم” لم يرافقه تحسن مواز في “الكيف”، إذ ظلّ التعلم الفعلي ضعيفا، خاصة في اللغات والرياضيات والعلوم، ما دفع الخبراء إلى الحديث عن “أزمة تعلم” أكثر منها “أزمة تمدرس”.

مؤشرات دولية تدق ناقوس الخطر

نتائج مشاركة المغرب في الاختبارات الدولية (PISA، TIMSS، PIRLS) تكشف جزءا كبيرا من عمق الأزمة. في PISA 2018، حصل التلاميذ المغاربة (15 سنة) على معدل يقارب 359 نقطة في القراءة، و368 في الرياضيات، و377 في العلوم، وهو ما وضع البلاد في المراتب الأخيرة عالميا. وفي دورة 2022، سجل المغرب حوالي 339 نقطة في القراءة، وقرابة 365 في الرياضيات والعلوم، مع بقاء أكثر من ثلثي التلاميذ تحت عتبة الكفايات الأساسية في مختلف المواد.

الأمر لا يقتصر على PISA، فتقارير TIMSS وPIRLS تشير بدورها إلى أن غالبية التلاميذ في المستويات الأولى لا يتقنون المهارات الأساسية في فهم المقروء والحساب، وأن 66% من الأطفال في سن العاشرة تقريباً عاجزون عن قراءة نص بسيط وفهمه بشكل كاف. هذه الأرقام تعني أن المدرسة العمومية، رغم تمدرس الأطفال، لا تنجح في منحهم رأسمالا معرفيا ولغويا يضمن لهم متابعة دراستهم أو الاندماج لاحقا في سوق الشغل والمجتمع.

الفجوة بين السياسة والتنفيذ

حللت دراسة أكاديمية حديثة حصيلة الرؤية الإستراتيجية 2015–2030 وخلصت إلى أن الإشكال الأساسي لا يكمن في نقص التصورات، بل في الفجوة بين تصميم السياسات وتنفيذها على أرض الواقع. من بين الأعطاب التي ترصدها هذه الدراسة، مركزية مفرطة في تدبير المنظومة، تغيّر متكرر في اختيارات لغة التدريس، تركيز على توسيع العرض (بناء مدارس، زيادة أعداد المسجّلين) أكثر من الاستثمار في جودة التعلم (التكوين المستمر، دعم الكفاءات البيداغوجية، وتجويد المناهج وأساليب التقويم).

كما سجّلت الدراسة استمرار فوارق حادّة بين الوسط الحضري والقروي، إذ يظل الانقطاع عن الدراسة في العالم القروي، خاصة لدى الفتيات بعد الابتدائي، أعلى بكثير من المدن، مع تفاوت واضح في ظروف التمدرس (البنيات، النقل المدرسي، الداخليات، عدد التلاميذ في القسم). هذه الفوارق تجعل الحديث عن “مدرسة عمومية واحدة” أقرب إلى التجريد، في حين أن الواقع يقدم “مدارس عمومية” متعددة السرعات، تتفاوت من مؤسسة حضرية نموذجية إلى وحدة مدرسية قروية تفتقد لأبسط الظروف.

صعود التعليم الخصوصي… المؤشر الصامت لهجرة الثقة

خلال عقد واحد تقريباً، أصبح التوسع في التعليم الخصوصي أحد أبرز سمات المشهد التعليمي في المغرب. بين موسمي 2009/2010 و2018/2019، ارتفع عدد المؤسسات الخاصة بنسبة 91% مقابل 15% فقط للمؤسسات العمومية، مما يعني أن أغلب المدارس الجديدة التي شُيدت في هذه الفترة كانت خصوصية. في الفترة نفسها، تضاعف تقريباً عدد المتمدرسين في التعليم الخصوصي من حوالي 576 ألف تلميذ إلى نحو 1.04 مليون، بينما لم يتجاوز نمو عدد تلاميذ التعليم العمومي 9% من 5.7 ملايين إلى حوالي 6.1 ملايين.

ولا ينحصر تفسير هذا التحول في عرض “منتج تعليمي بديل” من طرف القطاع الخاص، بل يرتبط أساسا بانسحاب تدريجي لثقة جزء كبير من الطبقة الوسطى من المدرسة العمومية. تقارير مجلس التعليم ومصادر تحليلية أخرى تسجّل أن أولياء الأمور يبررون انتقالهم إلى الخصوصي بعوامل مثل: انخفاض عدد التلاميذ في القسم، توفر أنشطة موازية، حضور أقوى للغات الأجنبية، انضباط أكبر، وإحساس بأن “الاستثمار في مدرسة خاصة هو استثمار في مستقبل الأبناء”.

أرقام تفضح الفوارق بين العمومي والخصوصي

الفارق في نسب التأطير بين القطاعين صارخ؛ إذ تشير معطيات رسمية إلى أن معدل التلميذ/الأستاذ في التعليم العمومي يناهز 23 إلى 1، بينما ينخفض في المؤسسات الخصوصية إلى حوالي 12 تلميذاً لكل أستاذ في المتوسط. هذا يعني أن التلميذ في المدرسة الخاصة يحصل، نظرياً، على حيز أكبر من المتابعة الفردية، وهي نقطة جوهرية في قناعة الأسر الباحثة عن جودة أكبر.

وورد في تقرير للمجلس الأعلى للتربية أن تلاميذ التعليم الخصوصي حققوا أداء أفضل بكثير من أقرانهم في العمومي في اختبارات القراءة الدولية، إذ بلغ متوسط نقاطهم حوالي 461 من 1000، مقابل 340 فقط لتلاميذ العمومي. ورغم التحفظات التي يُبديها بعض الخبراء (مثل الانتقاء الاجتماعي والاقتصادي لتلاميذ الخصوصي)، فإن هذه الفجوة تغذي الانطباع العام بأن المدرسة الخصوصية تقدم خدمة تعليمية أجود، حتى لو لم تكن مثالية.

من يتحمل مسؤولية هذا النزيف؟

حصر المسؤولية في جهة واحدة سيكون تبسيطا مُخلاً، لكن يمكن تمييز مستويات ثلاثة مترابطة:

على مستوى السياسات العمومية: فالحكومات المتعاقبة ركزت على مؤشرات التعميم وبناء المنشآت أكثر من بناء “مدرسة الجودة”، ولم تجرؤ بما يكفي على معالجة جذور الأزمة، مثل أوضاع المدرسين، وثقل البيروقراطية، وتعاقب المناهج والبرامج دون استقرار زمني يسمح بالتقييم والتعديل الرصين.

وعلى مستوى الحكامة القطاعية: فوزارة التربية والأكاديميات الجهوية ظلت أسيرة منطق مركزي في التخطيط ومرن أحياناً في التطبيق، مع ضعف في ربط المسؤولية بالمحاسبة داخل المنظومة، وغياب تقييم صارم للأداء على مستوى المؤسسات والمديريات، ما جعل كثيراً من الإصلاحات “تعليمات عمودية” لا “مشاريع مشتركة” مع الفاعلين الميدانيين.

أما على مستوى الفاعلين المباشرين: فجزء من الجسم التعليمي والإداري ساهم، عن وعي أو دون وعي، في إضعاف صورة المدرسة العمومية، سواء عبر الغياب المتكرر، أو ضعف الانخراط في التكوين المستمر، أو استنساخ أساليب تلقين تقليدية، أو حتى عبر الجمع بين العمل في العمومي و”الساعات الإضافية” في الخصوصي، مما يعمّق شعور الأسر بأن التعليم الجيد صار “سلعة مدفوعة”، وأن القسم العمومي مجرد مرحلة عبور.

ماذا عن الأسر؟ مِن الضحية إلى الفاعل

هجرة الثقة نحو التعليم الخصوصي تعكس أيضاً خيارات الأسر، التي وجدت نفسها في وضع دفاعي أمام مستقبل أبنائها؛ فأي أسرة قادرة ماديا ستختار، في ظل المعطيات الحالية، مدرسة تعتبرها أقل مخاطرة، حتى لو كان الثمن أثقل على الميزانية. هذا السلوك منطقي من زاوية فردية، لكنه يُنتج على المستوى الجماعي آليتين خطيرتين:

تكريس مدرسة عمومية “للفئات الأضعف” ومدرسة خصوصية “لمن يستطيع الدفع”، ما يحوّل المنظومة إلى قناة لإعادة إنتاج الفوارق بدل تقليصها.

وإضعاف الضغط الاجتماعي من الطبقة الوسطى على الدولة لتحسين العمومي، لأن جزءا كبيرا من هذه الطبقة “انسحب” إلى الخصوصي وتحوّل إلى زبون لمقاولات تعليمية أكثر منه مواطناً منخرطاً في معركة إصلاح المدرسة للجميع.

سياسات انتقائية تعمق الفجوة

بعض قرارات الإصلاح زادت الوضع تعقيدا، مثلا تشديد شروط التوظيف في التعليم العمومي (رفع عتبة السن، مساطر انتقاء متعددة) دون معالجة شروط العمل والاستقرار المهني والتحفيز، مما أثار جدلاً واسعاً حول جاذبية المهنة، خاصة لدى الأجيال الشابة. بالمقابل، تُرِك الباب مفتوحاً لتوسع التعليم الخصوصي في المدن الكبرى والمتوسطة دون سياسة واضحة لضبط الجودة والأسعار، ما جعل جزءاً من الاستثمار التعليمي يتجه نحو الربحية أكثر من الجودة.

كما أن مسار “فرنسة” المواد العلمية في الثانوي، المنصوص عليه في القانون الإطار، تم في مناخ من التردد والانقسام المجتمعي، دون توفير كافٍ لتهيئة المدرسين والطلبة، الأمر الذي انعكس على أداء فئات واسعة من تلاميذ العمومي، في حين استطاعت بعض المؤسسات الخاصة تدبير الانتقال بسلاسة أكبر بفضل مواردها وإمكانياتها.

هل الخصوصي حلّ أم مظهر للأزمة؟

التعليم الخصوصي نفسه ليس كتلة واحدة من الجودة؛ فإلى جانب مؤسسات ذات مستوى جيد، توجد مدارس خاصة بمواصفات متواضعة أو هشة، تستفيد من صورة “الخاص أفضل من العمومي” دون أن تقدّم فعلا قيمة مضافة كبيرة. ومع ذلك، فإن توسع الخصوصي بالمعدلات الحالية يشير إلى خلل بنيوي: لو كانت المدرسة العمومية تؤدي دورها كما ينبغي، لما اضطر هذا العدد الكبير من الأسر إلى تحمل تكاليف إضافية بحثاً عن بدائل.

وحذرت تحليلات إستراتيجية من أن ترك التعليم الخصوصي يتمدد بلا سياسة تأطير واضحة قد يؤدي إلى “خوصصة مقنّعة” لوظيفة التربية، ما يتعارض مع مبدأ التعليم كخدمة عمومية وحق أساسي، ويحوّل التربية إلى سوق تحكمه القدرة على الدفع أكثر مما تحكمه استحقاقات التعلّم والإنصاف.

نحو استعادة الثقة: ما المطلوب؟

لإيقاف نزيف الثقة واستعادة جاذبية المدرسة العمومية، تشير الدراسات إلى مجموعة من الأولويات:

أولا: نقل مركز ثقل الإصلاح من النصوص إلى الأقسام، بالتركيز على تكوين المدرسين، وتخفيف الاكتظاظ، وتجويد المناهج والتقويم، وضمان استقرار نسبي في السياسات حتى يتسنى التقييم والتعديل.

ثانيا: تعزيز الإنصاف الترابي، بخلق استثمارات خاصة في العالم القروي والهوامش (بنيات، نقل، داخليات، تحفيزات للمدرسين) حتى لا تصبح الجغرافيا قدرا تعليميا يحدد مصير التلاميذ.

وثالثا: ضبط توسع الخصوصي بقواعد واضحة للجودة والشفافية، وربطه بدور تكميلي لا كونه بديلا عن العمومي، مع آليات مراقبة بيداغوجية ومالية تحمي الأسر من “تسليع” مبالغ فيه للتعليم.

في النهاية، المسؤولية عن هجرة الثقة من المدرسة العمومية موزعة بين صانع القرار الذي لم يحوّل الإصلاح إلى نتائج ملموسة في القسم، وجهاز إداري وتربوي لم يُواكب التغيير بالقدر الكافي، وفاعلين مجتمعيين انسحب جزء منهم إلى الحلول الفردية. لكن استعادة هذه الثقة لن تتحقق إلا إذا عادت المدرسة العمومية إلى جوهر وظيفتها كفضاء يضمن تعلماً ذا معنى، ومساواة في الفرص، وإحساساً بأن مستقبل الطفل لا يُقاس بالحساب البنكي لأسرته، بل بجهده وكفاءته. عندها فقط قد تصبح العودة من الخصوصي إلى العمومي خياراً وارداً، لا مجرّد حنين لمدرسة لم يعد لها وجود إلا في الذاكرة.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.