تحقيق استقصائي: شباب المغرب ضد الفساد – من الصمت إلى الانفجار الشعبي

شباب المغرب ضد الفساد – من الصمت إلى الانفجار الشعبي

التاريخ: نونبر 2025

المكان: الرباط – المغرب

في صباح 27 شتنبر 2025، استيقظ المغرب على مشهد مختلف: آلاف الشباب يتدفقون إلى الشوارع في عدد من المدن، يرفعون شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، وإقالة الحكومة. لم تكن هذه مجرد وقفة احتجاجية عابرة، بل انطلاقة واحدة من أوسع موجات الغضب الشعبي منذ حراك 2011، تحت مسمى جديد: حركة “جيل زد 212” (GenZ212)، حركة شبابية لا مركزية، اختارت تطبيق Discord لتنظيم نفسها بعيداً عن الأحزاب التقليدية والقنوات الكلاسيكية للعمل السياسي.

ما حدث في شتنبر 2025 لم ينزل من السماء. بل كان حصيلة خمس سنوات من تراكم قضايا الفساد، وتدهور الخدمات الأساسية، وارتفاع البطالة وسط الشباب، في ظل شعور عارم بأن الدولة تملك الموارد، لكنها تفتقر للإرادة السياسية. هذا التحقيق يحاول أن يرسم خارطة الطريق التي قادت من مؤشرات الفساد المتصاعدة ما بين 2020 و2024، إلى الانفجار الشعبي الذي قادته أجيال جديدة من المغاربة في 2025.

خمس سنوات من الفساد المتصاعد  (2020 – 2024)

  1. من الأرقام إلى الواقع

مع بداية العقد الجديد، كانت مؤشرات الفساد المالي في المغرب تسجّل منحى تصاعدياً مثيراً للقلق. سنة 2020 وحدها عرفت تسجيل مئات القضايا المرتبطة بالرشوة، وتبديد المال العام، وغسل الأموال. وتحدثت تقارير رسمية وإعلامية عن 405 قضايا مرتبطة بغسل الأموال، مما يعكس انتشار شبكات معقدة للإثراء غير المشروع.

في سنة 2021، قفز عدد قضايا الجرائم المالية إلى حوالي 1486 قضية، أي أكثر من الضعف مقارنة بالسنوات السابقة. هذا الارتفاع، بدلاً من أن يُقرأ كدليل على نجاح الكشف عن الفساد، قرأه عدد من المتتبعين كدليل على اتساع الظاهرة وتجذرها داخل الإدارة والمؤسسات، مقابل غياب ردع سياسي وتشريعي حقيقي.

بدل أن تستثمر الحكومة هذا التراكم الرقمي لصالح تشديد القوانين، أقدمت على خطوة اعتبرتها الهيئات الحقوقية “انتكاسة تشريعية”، حين سحبت مشروع القانون الجنائي الذي كان يتضمن تجريم الإثراء غير المشروع. خطوة فسّرها عدد من الفاعلين بأنها رسالة سلبية مفادها: “لا رغبة سياسية حقيقية في ملاحقة ممتلكات المسؤولين ومصادر ثرواتهم”.

يقول ناشط في جمعية تعنى بمحاربة الرشوة (فضّل عدم ذكر اسمه):

“الدولة أرسلت إشارة واضحة: محاربة الفساد ستظل شعاراً أكثر مما هي إرادة. عندما يتم سحب فصل تجريم الإثراء غير المشروع، فهذه رسالة إلى كل مسؤول: أنت في مأمن ما دمت في المنصب أو قريبا من دوائر القرار.”

  1. الاعتقالات والمحاكمات: بين الاستثناء والقاعدة

ابتداءً من 2022، بدأت تظهر ملفات لافتة في قضايا الفساد، خصوصاً على مستوى الجماعات الترابية والمؤسسات المنتخبة. في الدار البيضاء وسلا وعدد من المدن الأخرى، تم اعتقال منتخبين وموظفين بتهم تتراوح بين تبديد المال العام، وتزوير الوثائق، واستغلال النفوذ.

في نونبر 2022، أخذ الموضوع بعداً سياسياً أكبر مع اعتقال المحامي ووزير حقوق الإنسان السابق محمد زيان، بعد سلسلة من الخرجات الإعلامية التي انتقد فيها مسؤولين كباراً واتهمهم بالفساد وسوء التدبير. القضية قُرئت على نطاق واسع كرسالة لمن يربط بين الفساد وأسماء داخل الدولة، أكثر مما هي فقط ملف قضائي.

وعلى امتداد 2023 و2024، توالت الأخبار عن متابعة منتخبين ورؤساء جماعات وبرلمانيين. مصادر إعلامية وقضائية تحدثت عن أزيد من 30 برلمانياً حالياً وسابقاً يوجدون في السجن أو قيد المتابعة. وأكثر من 100 رئيس جماعة ومنتخب محلي متابعون في قضايا فساد، إلى جانب مسؤولين كبار، بينهم وزير سابق.

غير أن عدداً من الخبراء الذين تحدث إليهم فريق التحقيق يجمعون على أن هذه الملفات، رغم أهميتها، لا ترقى إلى مستوى “سياسة دولة” لمحاربة الفساد، بقدر ما تشكل جهوداً جزئية، مبعثرة، تقودها مؤسسات قضائية ورقابية أكثر مما تقودها الحكومة كخيار استراتيجي.

يقول خبير قانوني متابع لهذه الملفات:

“ما نراه هو عمل للقضاء والنيابة العامة وأجهزة المراقبة، لكنه ليس ثمرة إرادة سياسية شاملة. لا توجد رؤية مندمجة ولا خطاب حكومي واضح يضع مكافحة الفساد على رأس الأولويات.”

  1. الإحراج الدولي وتراجع المؤشرات

في يناير 2023، هزّ الرأي العام خبر تورط مسؤولين مغاربة في فضيحة “الفساد في البرلمان الأوروبي”، حيث تحدثت تقارير أوروبية عن شبهات رشاوى وضغوط لصالح مصالح مغربية. القضية لم تكن مجرد تفصيل، بل تحولت إلى إحراج دبلوماسي كبير للمملكة، ورسخت صورة سلبية عن ارتباط اسم المغرب بقضايا الفساد على مستوى دولي.

في أكتوبر 2023، جاء ما اعتبره البعض “تتويجا رقميا” لهذا المسار، عندما تراجع ترتيب المغرب في مؤشر مدركات الفساد وحصل على حوالي 38 نقطة من 100 فقط، مسجلاً تراجعاً ملحوظاً مقارنة بسنوات سابقة. كل هذا كان يحدث بينما تظل “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد” (2015-2025) شبه مجمدة، ولجنتها الوطنية لا تجتمع بانتظام ولا تصدر تقارير تقييمية واضحة.

بهذا الترسيب، دخل المغرب سنة 2024 مثقلاً بسمعة دولية ملتبسة وداخلية متدهورة على مستوى الثقة في المؤسسات.

من مستشفى أكادير إلى شوارع المغرب – الشرارة التي فجّرت الغضب

  1. وفيات الأمهات: حين يتحول الإهمال إلى رمز

قبل أسابيع قليلة من انفجار احتجاجات “جيل زد”، هزّت الرأي العام قضية وفاة ثماني نساء حوامل في مستشفى الحسن الثاني بأكادير أثناء عمليات قيصرية أو بسبب مضاعفات الولادة. شهادات عائلات الضحايا تحدّثت عن غياب الأطباء في أوقات حرجة، ونقص في التجهيزات، واكتظاظ، وتعامل غير إنساني.

إحدى الأمهات الثكالى قالت لفريق التحقيق، وهي تمسك بصورة لابنتها الراحلة:

“ابنتي دخلت على رجليها وخرجت في صندوق. كانوا يقولون لنا: اصبروا، الطبيب مشغول، الممرضة غير موجودة، الدم غير متوفر. لكننا نعرف أن الملايين تُصرف على ملاعب ومهرجانات. لماذا لا تُصرف على المستشفيات؟”

هذه الفاجعة لم تكن مجرد خطأ طبي، بل تحولت في وعي كثير من المغاربة إلى رمز لفشل المنظومة الصحية برمتها، وإلى تجسيد حي لعبارة: “الفساد يقتل”.

  1. جيل زد 212″: حركة بلا رأس… وبلا خوف

في خضم هذا المناخ المشحون، ظهرت على تطبيق Discord غرفة دردشة صغيرة تحمل اسم GenZ212.  في البداية، كان عدد الأعضاء لا يتجاوز بضع مئات. لكن خلال أيام، ومع توالي الدعوات للاحتجاج، قفز العدد إلى عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف.

اختار الشباب Discord لثلاثة أسباب أساسية:

  • صعوبة المراقبة الأمنية مقارنة ببعض المنصات الأخرى
  • إمكانية التنظيم عبر غرف وقنوات موضوعاتية
  • الحفاظ على قدر كبير من اللا مركزية واللا قيادية

كتب أحد المنظمين في إحدى القنوات المغلقة:

“نحن لا نريد زعيماً يسهل اعتقاله. نريد حركة واسعة، كل واحد فيها زعيم على قدر مسؤوليته.”

بتاريخ 27 شتنبر 2025، خرجت أول موجة كبيرة من الاحتجاجات في عدة مدن: الرباط، الدار البيضاء، طنجة، أكادير، سلا، مراكش، فاس، مكناس، وجدة، وغيرها. كانت الشعارات تدور حول:

  • إقالة الحكومة
  • محاربة الفساد
  • الحق في الصحة والتعليم والعيش الكريم
  1. المطالب: بسيطة… لكنها جوهرية

وثائق وبيانات الحركة، بالإضافة إلى الشعارات المرفوعة في المسيرات، ركزت على حزمة من المطالب يمكن تلخيصها في:

  • تعليم عمومي مجاني وجيد، لا يكرس الفوارق الطبقية
  • نظام صحي عمومي لائق، يضمن الكرامة ويحمي من الوفيات العبثية
  • فرص عمل حقيقية للشباب وخريجي الجامعات
  • محاربة الفساد المؤسسي ومحاسبة كبار المفسدين لا “صغار الموظفين” فقط
  • مراجعة أولويات الإنفاق العمومي، وتقليص الكلفة الباهظة للرهان على تنظيم تظاهرات كبرى (كأس إفريقيا، كأس العالم) على حساب الخدمات الأساسية

في قلب كل هذا، كان هناك اسم واحد يتردد بقوة في الشارع: عزيز أخنوش، رئيس الحكومة ورجل الأعمال الثري، الذي رأى فيه كثيرون رمزاً لتضارب المصالح بين المال والسلطة.

ثلاث رصاصات تهز المغرب

  1. ليلة القليعة:

في الأول من أكتوبر 2025، بلغ التوتر ذروته في القليعة قرب أكادير. وفقاً لتحقيقات منظمات حقوقية وفيديوهات موثقة، حاصر متظاهرون مركزاً للدرك ورشقوه بالحجارة. بعد دقائق، ردّ عناصر الدرك باستخدام الرصاص الحي. وكانت النتيجة ثلاثة قتلى على الأقل، من بينهم: طالب سينما كان يحلم بإخراج أفلام عن المجتمع المغربي، وشاب في الخامسة والعشرين من عمره، وضحية ثالثة لم تُكشف كل تفاصيله سريعاً.

الصور التي توثق لسقوط طالب السينما بجرح عميق في الظهر، وهو مسجى على الأرض والدماء تحته، انتشرت كالنار في الهشيم على الشبكات الاجتماعية، وتحولت إلى رمز آخر: “الرصاص في مواجهة الحلم”.

  1. وجدة: حين دهست الشاحنة المستقبل

بعيداً عن القليعة، شهدت مدينة وجدة حادثة لا تقل خطورة. مقطع فيديو متداول يظهر شاحنة أمنية تصدم متظاهرين وتدهس أحدهم على حائط، قبل أن تفرّ مسرعة. فقد خلالها شاب ساقه اليسرى جراء الحادث. فيما أصيب شاب آخر بإصابات خطيرة.

هذه المشاهد رسخت في أذهان كثيرين أن الرد الأمني خرج عن حدود “تفريق الاحتجاجات” إلى مستوى تهديد الحق في الحياة. في وقت ترسخ لدى آخرين أن احتجاجات الشباب فقدت البوصلة وحادت عن سلميتها.

  1. أرقام ثقيلة

وفق معطيات حقوقية وقضائية وإعلامية، يمكن رسم الحصيلة التقريبية للأيام الأولى من المواجهات 3  قتلى على الأقل ومئات الجرحى في صفوف المتظاهرين وأكثر من 300 إصابة في صفوف قوات الأمن وفق الرواية الرسمية وحوالي 1000 معتقل في مختلف المدن فيما 270 شخصاً على الأقل تمت متابعتهم قضائياً، بينهم قرابة 40 قاصراً. كما تم تدمير عدد من سيارات الشرطة وممتلكات عامة وخاصة.

وأصدرت المحاكم أحكاماً قاسية في وقت قياسي، إذ حُكم على بعض المتهمين بـ: 4 سنوات سجناً وغرامات ثقيلة لمجرد نشر تدوينات اعتبرت “تحريضاً على الاحتجاج”، و10 و20 سنة سجناً في قضايا وُصفت بـ”أعمال تخريب واسعة” واعتبرت منظمات حقوقية أن هذه الأحكام تهدف إلى بث الخوف وتحطيم أي محاولة لاستمرار الاحتجاج المنظم.

الفساد والإنفاق العمومي – معركة الأرقام

  1. 5 مليارات دولار للملاعب… ومستشفيات متهالكة

في الوقت الذي كانت الشوارع تغلي غضباً بسبب تدهور الخدمات الأساسية، كانت الحكومة تسوّق لمشاريع كبرى استعداداً لتنظيم كأس الأمم الإفريقية 2025 و كأس العالم 2030.

الاستثمارات المعلنة في البنى التحتية الرياضية والنقل والفنادق قُدِّرت بحوالي 5 مليارات دولار. في المقابل، تُظهر الأرقام أن: الإنفاق على القطاع الصحي لم يتجاوز قرابة 2.3% من الناتج الداخلي الخام. وما يقارب نصف السكان يفتقرون لتغطية صحية فعّالة، بمعنى آخر: ملاعب بمواصفات عالمية، يقابلها مستشفيات بمواصفات متدهورة.

تقول ناشطة اجتماعية من أكادير:

“نحن لا نرفض أن ينظم المغرب كأس العالم. لكننا نسأل: ما جدوى الملاعب إذا كان الناس يموتون في الممرات بسبب غياب سرير أو طبيب؟”

  1. التعليم: أزمة في المخرجات

قطاع التعليم كان بدوره جزءاً من معادلة الانفجار. رغم أن الإنفاق عليه يقترب من 6% من الناتج الداخلي الخام، فإن أقل من واحد من كل خمسة تلاميذ في سن المراهقة يحققون الكفايات الأساسية في الرياضيات والقراءة وما تزال نسب الأمية في صفوف البالغين فوق 20% في بعض التقارير، فيما تصل بطالة خريجي الجامعات إلى قرابة 20%. هذا يعني أن المدرسة لم تعد طريقاً مضموناً نحو الشغل والحياة الكريمة، مما يزيد من فقدان الثقة في جدوى المنظومة برمتها.

جيل محاصر بالبطالة واليأس

  1. 35% من الشباب بلا عمل

من بين كل ثلاثة شباب مغاربة تقريباً، يوجد واحد بدون عمل. إذ تشير المعطيات الإحصائية لسوق الشغل إلى أن معدل بطالة الشباب في الفئة (15 – 24 سنة) يقترب من 35 – 36%، وتقفز النسبة في المدن، إلى حوالي 48% في بعض التقديرات وأزيد من مليون ونصف عاطل عن العمل، أغلبهم من الشباب. هذه الأرقام تعني ببساطة أن كثيرين “يفعلون كل شيء كما يجب” – يدرسون، يحصلون على شواهد، يجتازون مباريات – ثم يجدون أمامهم جداراً سميكاً من غياب الفرص والزبونية والمحسوبية.

شاب حاصل على شهادة مهندس، التقى به فريق التحقيق في الرباط، يلخص الوضع قائلاً:

“أحس أنني مواطن من الدرجة الثانية. درست لسنوات، أتقن لغات أجنبية، قدّمت مئات الطلبات، لكن لا أحد يرد. فيما تتداول وسائل التواصل الاجتماعي أخبار صفقات مشبوهة وامتيازات لمقربين من السلطة.”

  1. من هم أبناء “جيل زد” في المغرب؟

الملاحظ أن النواة الصلبة لاحتجاجات “جيل زد 212” تتكون من شباب بين 16 و35 سنة، نسبة كبيرة منهم من الحاصلين على شهادات جامعية أو تكوين مهني، وأغلبهم من المدن الكبرى والمتوسطة، مع حضور رمزي من القرى والمناطق المهمشة.

إنه جيل حضري، رقمي، واعٍ بحقوقه، يرى العالم من نافذة الإنترنت، ويقارن نفسه بأقرانه في بلدان أخرى، ثم يطرح السؤال القاسي: “لماذا نحن متأخرون؟ ولماذا نفس الوجوه في السلطة رغم هذا التأخر؟”.

الفساد في مرمى الاتهام – من المتهم؟

  1. برلمانيون، رؤساء جماعات، ووزراء سابقون

ملفات الفساد التي انفجرت بين 2020 و2024 لم تعد تقتصر على “موظف بسيط أخذ رشوة”. بل طالت برلمانيين حاليين وسابقين، ورؤساء جماعات حضرية وقروية، ورؤساء جهات، ووزراء ومسؤولين سامين سابقين. فيما شملت الاتهامات تبديد واختلاس أموال عمومية، والرشوة واستغلال النفوذ، والتزوير في محررات رسمية، وصفقات عمومية مشبوهة.

لكن السؤال الجوهري الذي يطرحه الشارع اليوم ليس: “هل هناك فاسدون؟”، بل “هل هناك إرادة حقيقية لمحاسبتهم جميعاً، مهما كانت مواقعهم؟”

  1. استراتيجية وطنية على الورق فقط

رغم وجود “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2015 – 2025″، إلا أن لجنتها الوطنية لا تجتمع بانتظام، وتقارير التقييم شبه غائبة عن الرأي العام، ولا وجود لربط واضح بين هذه الاستراتيجية وبين السياسات الحكومية الفعلية في الميزانيات والقوانين. بكلمات أوضح، المغرب يتوفر على “خريطة طريق” لمحاربة الفساد، لكنه لا يسير وفقها فعلياً.

بين الخطاب الملكي ومواقف الحكومة

في خضم التوتر، جاء الخطاب الأخير للملك محمد السادس، حيث ركز جلالته على ضرورة تحسين الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل. والمغاربة—خصوصاً فئة الشباب—استقبلوا هذه الرسائل بكثير من الأمل بعدما لاحظوا تقاعس الحكومة. ويرون أن تدخل الملك الذي مثل دائماً حامياً للضعفاء هو السبيل ليُعاد ترتيب الأولويات ويعود المغرب لطريق الإصلاح والمساواة الحقيقية.

وتجددت الثقة في أن الملكية قادرة على ضبط الإيقاع الاجتماعي ومحاسبة المسؤولين الذين يثبت تورطهم في الفساد، حتى يستفيد جميع المغاربة من خيرات بلادهم بعيداً عن مظاهر الاستبداد الحكومي وسوء التدبير.

وعلى العموم فمغاربة اليوم يؤمنون بأن الملك هو ضامن وحدة البلاد ورفاهية الشعب، ويرفعون مطالبهم بالإصلاح والإنصاف والثقة إلى جلالته، في انتظار أن تتجاوب الحكومة مع أوامره وتترجم توجيهاته إلى سياسات تُعيد الأمن والازدهار وتحارب كل فاسد مهما علا منصبه.

  1. حكومة أخنوش تحت المجهر

رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، وُضع في قلب العاصفة. فهو من جهة، رجل أعمال كبير، يملك واحدة من أكبر المجموعات الاقتصادية في البلاد. ومن جهة ثانية، يترأس حكومة متهمة شعبياً بضعف التواصل، والانحياز لورشات كبرى (الطاقة، البنى التحتية، الرياضة)، وعدم اتخاذ قرارات جريئة في ملفات الفساد.

وأمام الغضب، أعلنت الحكومة عن سلسلة إجراءات منها رفع ميزانية الصحة والتعليم، ووضع برامج لخلق عشرات آلاف مناصب الشغل، ودعم مشاركة الشباب سياسياً. لكن حركة “جيل زد” اعتبرت ذلك “إجراءات متأخرة وغير مقنعة”، ما دامت لم تُقرَن بإرادة حقيقية في محاسبة رموز الفساد وتضارب المصالح.

المغرب في مرآة حركات “جيل زد” عبر العالم

ما جرى في المغرب لا يمكن فصله عن موجة احتجاجات تقودها الأجيال الشابة في دول عدة. في نيبال، خرجت احتجاجات ضخمة بسبب الفساد وسوء الإدارة، وفي كينيا ومدغشقر، تحرك الشباب ضد ارتفاع الأسعار وفساد النخب السياسية. وفي بيرو والفلبين، قادت الأجيال الجديدة موجات غضب ضد الفساد وسوء توزيع الثروة.

قاسم مشترك واحد يجمع هذه الحركات، جيل جديد، متعلم، متصل بالعالم، لا يقبل الخطاب الرسمي بسهولة، ويستخدم أدوات رقمية متطورة لتنظيم نفسه.

اختيار شباب المغرب لمنصة Discord، والانخراط الكثيف عبر الإنترنت، واستخدام الرموز والوسوم، كلها تعكس أن “جيل زد” المغربي جزء من موجة عالمية أوسع، وأن مشكلته ليست مع وطنه، بل مع شكل إدارة هذا الوطن.

ماذا بعد؟ السيناريوهات المفتوحة

  1. تراجع زخم الشارع… لكن هل انتهت القصة؟

مع توالي الاعتقالات والأحكام، بدأت حدة الاحتجاجات تخف نسبياً مع منتصف أكتوبر 2025. أعلنت حركة “جيل زد 212” عن “هدنة تكتيكية” لإعادة التنظيم وتجنب مزيد من الضحايا.

لكن الهدوء الظاهر يخفي واقعاً أعمق، فالبطالة ما تزال مرتفعة، والفساد لم يُستأصل فيما لم يتم بعد استعادة الثقة في المؤسسات.

يقول باحث في الحركات الاجتماعية:

“هذه ليست النهاية. إنها فقط الجولة الأولى. إذا لم تُترجم الوعود إلى تغييرات ملموسة، فسنرى موجات جديدة من الغضب، ربما أكثر تنظيماً، وربما أكثر راديكالية.”

  1. دروس خمس سنوات وثلاثة أسابيع

من خلال تتبع مسار 2020 – 2025، يمكن استخلاص عدة خلاصات رئيسية:

  1. الفساد ليس ملفاً تقنياً. بل قضية سياسية بامتياز إذ أنه لا يمكن محاربته دون إرادة سياسية في أعلى هرم السلطة، ودون شفافية حقيقية.
  2. الاحتجاجات ليست استثناءً، بل نتيجة طبيعية لتراكم الظلم، حين يتعايش الناس مع الفقر والبطالة وسوء الخدمات. بينما يسمعون عن صفقات وثروات ضخمة، يصبح الشارع بديلاً عن المؤسسات.
  3. “جيل زد” ليس جيلاً ساذجاً أو “افتراضياً” فقط، بل هو جيل يعرف كيف ينظم نفسه، وكيف يضغط، وكيف يفرض أسئلته على الأجندة العامة.
  4. القمع قد ينجح مرحلياً في إخماد الشارع، لكنه لا يعالج الجذور، فالمحاكمات والاعتقالات لا تحل مشكل البطالة ولا تنقذ النساء من الموت في المستشفيات.

انتظار الأفعال لا الأقوال

اليوم، يقف المغرب أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن يحول هذه الصدمة إلى فرصة تاريخية للإصلاح عبر:

  • مراجعة جذرية لأولويات الإنفاق العمومي
  • تفعيل إستراتيجية حقيقية لمحاربة الفساد
  • إعادة بناء الثقة مع الشباب عبر شراكة صادقة

وإما أن يختار تدبير الأزمة بمنطق الوقت القصير، فيستمر في سياسة التهدئة المؤقتة دون إصلاح عميق، وهو ما قد يعني ببساطة تأجيل انفجارات اجتماعية جديدة.

إحدى الأمهات المفجوعات في أكادير قالت جملة تختصر كل شيء:

“لا أريد تعويضاً مالياً ولا خطاباً رسمياً. أريد فقط ألا تموت بنات أخريات بالطريقة التي ماتت بها ابنتي.”

والسؤال المطروح اليوم على صانعي القرار في المغرب: هل يسمعون حقاً هذه الأصوات؟ أم أن الفساد سيظل أقوى من أي احتجاج؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة