في ولايته الثانية، يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حاملاً معه فلسفة خارجية قائمة على “الغموض الاستراتيجي”، وهي مقاربة تمزج بين الردع العسكري والدبلوماسية الاقتصادية في إطار رؤية تهدف إلى تعزيز الهيمنة الأميركية في منطقة تتزايد فيها التوترات الجيوسياسية والاستقطابات الإقليمية. ومن خلال هذا النهج، يبدو أن ترامب يسعى إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، لا على أساس الالتزامات طويلة الأجل، بل وفق منطق رجل الأعمال: الصفقات مقابل الضمانات.
في أول 100 يوم من ولايته الثانية، تظهر ملامح استراتيجية ترامب الشرق أوسطية على شكل ثلاث ركائز مركزية: تشجيع تدفق الاستثمارات الخليجية الضخمة نحو مشاريع أميركية وداخلية بنَفَس شعبوي يربط بين “الوظائف الأميركية” و”المال الخليجي”، مما يعزز رصيد ترامب في الداخل؛ تفويض القوى الإقليمية بأدوار الوساطة في النزاعات الممتدة، خصوصاً في ملفات مثل ليبيا والسودان واليمن، وهو ما يسمح لواشنطن بتقليص كلف التدخل المباشر دون التخلي عن النفوذ؛ واحتواء التهديدات الأمنية، لا سيما تلك الصادرة عن إيران والميليشيات المتحالفة معها، عبر إبقاء خيار التصعيد العسكري مفتوحاً، دون الانجرار إلى حروب شاملة، ما يُعرف بـ”الردع المحدود”.
واحدة من أكثر النقاط حساسية في سياسة ترامب الإقليمية هي مقاربته تجاه إيران. إذ على عكس خطابه المتشدد، حافظت الإدارة على قنوات تواصل خلفية، في وقت كان فيه الرئيس يُوجه رسائل عسكرية واستراتيجية تُبقي طهران في حالة “عدم يقين استراتيجي”. هذه الازدواجية بين الحوار والتهديد ليست تناقضاً بقدر ما هي جزء من أدوات الغموض، تُوظفها واشنطن لخلق حالة ردع دون تحمل تكاليف المواجهة المباشرة.
ترامب لا يتعامل مع المنطقة كفضاء استراتيجي يستدعي شراكات طويلة الأمد، بل كـ”سوق مفتوحة” تُدار بمنطق الربح والخسارة. وهنا برزت عقلية رجل الأعمال التي يعتمدها في صياغة العلاقات مع الحلفاء، حيث يُقايض الدعم الأمني الأميركي بمكاسب اقتصادية واضحة، سواء في صورة استثمارات أو عقود تسليح أو تخفيض أسعار النفط. هذا المنطق ظهر في تعاطيه مع السعودية والإمارات ومصر، حيث لا يتورع عن استخدام أدوات مثل الرسوم الجمركية، وتعليق المساعدات، وفرض الشروط السياسية كوسائل ضغط. لكن هذه السياسة التي تبدو فعالة على المدى القصير، تطرح تساؤلات جوهرية حول مصداقية الالتزامات الأميركية، خاصة في ظل تزايد النفوذ الروسي والصيني الذي يُقدم نفسه كبديل أقل تدخلاً وأكثر استقراراً.
في الشق العسكري، تتبنى إدارة ترامب ما يمكن تسميته “الردع المحدود”، وهي استراتيجية تستند إلى تنفيذ ضربات عسكرية دقيقة – كما حدث في سوريا أو العراق – دون التورط في عمليات برية واسعة، مع توظيف هذه الضربات كأدوات ضغط تفاوضي ودبلوماسي. هذه المقاربة تُحقق هدفين في آنٍ واحد: الحفاظ على صورة “أميركا القوية”، وتفادي الغرق في مستنقعات عسكرية جديدة تُضعف حضور ترامب داخلياً. إنها سياسة تخاطب العقل الأميركي الذي تعب من الحروب، لكنها في الآن ذاته تُبقي المنطقة رهينة توترات قابلة للانفجار في أي لحظة.
قد تبدو سياسة ترامب الشرق أوسطية متقلبة للوهلة الأولى، إلا أن عديد المحللين يرون فيها نسقاً متماسكاً يقوم على خيط ناظم: استعمال الغموض كسلاح تفاوضي واستراتيجي. ففي كل الملفات تقريباً – من إيران إلى صفقة القرن، ومن الانسحاب من سوريا إلى دعم التطبيع – يفضل ترامب ترك الأمور في حالة “عدم يقين”، مما يضع خصومه في موقع رد الفعل الدائم. هذه المقاربة، رغم فاعليتها التكتيكية، لا تخلو من مخاطر استراتيجية: فالغموض، إذا ما طُبّق بإفراط، قد يتحول إلى غياب رؤية، ويقوض ثقة الحلفاء قبل الأعداء، ويخلق فراغاً تملؤه قوى صاعدة لا تتقاسم المصالح الأميركية، كما هو حال الصين وروسيا وتركيا.
في المحصلة، فإن سياسة ترامب الشرق أوسطية ليست مجرد إعادة تدوير لسياسات سابقة، بل هي محاولة لإعادة تعريف الهيمنة الأميركية في المنطقة وفق منطق جديد: مقايضة المصالح الاقتصادية بضمانات أمنية، وتعويم الغموض كسقف للسياسة الخارجية. وقد تنجح هذه السياسة في المدى القريب، لكنها تظل رهينة توازنات هشة وتحولات سريعة قد تعصف بأسسها في أي لحظة.