شهد المغرب مؤخرا فضيحة هزت الجسم الإعلامي والقانوني على حد سواء، بعد تداول تسجيلات صوتية منسوبة لأعضاء لجنة مكلفة بالإشراف على أخلاقيات الصحافة والقضايا التأديبية ضمن اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة. لم تكن المشكلة مجرد محتوى هذه التسجيلات، بل يكمن الخطر الحقيقي في الإطار المؤسسي المتهالك الذي تعمل فيه اللجنة، والذي يفترض أن يكون نموذجاً للشفافية والنزاهة.
التسجيلات كشفت عن انزلاقات لفظية ومهنية خطيرة، تضمنت عبارات مهينة للمحامين والصحفيين على حد سواء، مثل: “محاميين مصديين”، و”محامي بحال ضاربو شي جن فشي تواليت. هذه التصريحات ليست مجرد إساءات، بل انعكاس مباشر لثقافة مؤسسة ضعيفة، غائبة فيها المساءلة والشفافية، حيث تتحول اللجنة التي يفترض أن تحمي أخلاقيات المهنة إلى مصدر تهديد للحقوق المهنية والقانونية.
ردود الفعل الرسمية والحزبية لم تتأخر. فقد طالب حزب “العدالة والتنمية” بفتح تحقيق قضائي عاجل، مؤكداً أن ما جاء في التسجيل “خطير” ويستدعي مساءلة أعضاء اللجنة، فيما طالبت النائبة فاطمة التامني من “فدرالية اليسار” بتحقيق دقيق لتحديد المسؤوليات. معتبرة أن التسريب يكشف “تآمراً صريحاً على حرمان صحافي ومقاولة إعلامية من حقوق مهنية، مع إساءة للمحامين وإقحام رئاسة النيابة العامة في تصفية حسابات”. الحزب الاشتراكي بدوره اعتبر التسجيل مليئاً بـ“الانزلاقات الخطيرة” التي تهدد الثقة في القطاع وسمعة المغرب الحقوقية.
أما الجمعية الوطنية للمحامين، فكانت أكثر حدة، معتبرة أن العبارات الواردة “تمس بكرامة المحامين وتحط من اعتبارهم المهني”، ومشددة على أن استقلالية الدفاع جزء لا ينفصل عن استقلال القضاء. ورأت الجمعية أن ما كشفته التسجيلات لا يمثل مجرد إساءة فردية، بل يشكل انتهاكاً صريحاً للمهنية والقيم الحقوقية، داعية إلى فتح تحقيق مستقل وشامل لترسيخ الثقة في العدالة.
من جهتها، دافعت اللجنة المؤقتة عن نفسها باتهام الصحافي حميد المهدوي بالتشهير ونشر مقاطع “منتقاة ومفبركة”، معتبرة أن تصوير مداولات داخلية محاط بالسرية يمثل خرقاً للقانون، وأن نشرها محاولة لخلق مواجهة مفتعلة وتشويه صورة اللجنة. وبين الروايات المتضاربة والاتهامات المتبادلة، يبقى الثابت الوحيد هو حجم الصدمة الذي أصاب الرأي العام والمهنيين، بعدما وجدوا أنفسهم أمام مشاهد لم يكن أحد يتوقع صدورها من لجنة يُفترض أن تكون ضمير المهنة وحامي شرفها الأخلاقي.
هذه الأزمة كشفت عن ثلاث مفارقات خطيرة: أولاً، أن المؤسسات المكلفة بحماية الأخلاقيات في الإعلام يمكن أن تتحول إلى أدوات ضغط أو انتقام، إذا غابت عنها الحوكمة والرقابة القانونية؛ ثانياً، أن الانزلاقات الفردية في مثل هذه اللجان ليست مجرد أخطاء شخصية، بل تهدد الثقة في كل المنظومة المهنية والإعلامية؛ وثالثاً، أن غياب الإطار القانوني يفتح الباب أمام أي تجاوزات محتملة دون رادع فعال.
الدرس الأهم هنا هو أن استقلالية الإعلام لا يتحقق إلا عبر مؤسسات قوية، شفافة، ومسؤولة. أي تجاهل لقواعد الحوكمة والمساءلة يؤدي إلى أزمات ثقة واسعة، تهدد الحرية المهنية وتضعف مصداقية الدولة أمام الرأي العام. الإصلاح ليس خياراً، بل ضرورة استراتيجية لضمان عدم تكرار مثل هذه الانزلاقات مستقبلاً.
المغرب اليوم، امام فرصة لاعادة رد الاعتبار للصحافيين وحماية حقوق الصحفيين ، واستعادة ثقة المجتمع المدني في المؤسسات، فإنه أمام اختبار حقيقي لنضج مؤسساته وقدرتها على تطبيق قواعد النزاهة والشفافية. والفرصة الآن تكمن في تحويل هذه الأزمة إلى محرك لإصلاحات شاملة، تبدأ بتحديث الإطار القانوني للجان المؤقتة، وتفعيل آليات رقابة مستقلة، ومساءلة كل المخالفين، لضمان أن تظل المهنة الإعلامية رموزاً للنزاهة والمهنية، وحصناً لحقوق جسمها الاعلامي.















