تغلي الساحة الإسرائيلية كالمرجل، وتعج جدرانها بالصور كجريدةٍ، ووسائلها الإعلامية بالوعود والتصريحات، وتشتبك أحزابها وتلتحم كتلها وتعود بعضها فتخرج وتنفصل، وتستقل بنفسها وتعلن خوض الانتخابات وحدها، وهي تتأهب بتحفزٍ شديدٍ وقلقٍ أكبر لخوض الانتخابات التشريعية الخامسة في غضون أقل من ثلاث سنواتٍ، التي لم يبق على إجرائها سوى ثلاثة أيامٍ فقط، إذ ستجري يوم الثلاثاء القادم الأول من شهر نوفمبر/تشرين ثاني 2022.
يعلم الإسرائيليون على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، أن الانتخابات الجديدة لن تنقذهم، ولن تخرجهم من مأزقهم، ولن تكون نتائجها هي جسر العبور وبوابة الاستقرار، بل ستعيدهم حتماً إلى المربع الأولى التائه الحائر، العاجز الضعيف، الذي لا يملك فيه أي طرفٍ القوة الكافية للحسم وتجاوز مراحل حالة اللا وزن واللا قرار واللا استقرار التي يمر بها كيانهم، ويعاني منها مستوطنوهم، ويشكو منها اقتصادهم، وتضطرب فيها شؤونهم، وتتصادم مصالحهم، في ظل عالمٍ متغيرٍ وتحدٍ دائمٍ ومواجهاتٍ مستمرةٍ.
رغم أنه لم يبق وقتٌ طويل على يوم الانتخابات، ولم يعد هناك احتمالاتٌ لتغيير وجهات النظر وتبدل النتائج المتوقعة، إذ أن الغالبية قد حسمت قرارها، وأكدت عل خياراتها، ولا يبدو أن أحداً يستطيع تغيير قرارها، أو حملها على انتخاب من لا تريد، إلا أن المؤسسات الإسرائيلية المختلفة لم تتوقف عن إجراء الاستقراءات الميدانية، وإصدار نتائج استطلاعات الرأي التي تصل إليها، التي تؤكد كلها عدمية التوصل إلى نتائج مفاجئة، تغير الواقع وتحسم القرار.
لكن اللافت في الشارع الإسرائيلي في الأيام القليلة الماضية، هو أن قطاعاً كبيراً من المستوطنين قد عزفوا عن التصويت، وأعلنوا نيتهم مقاطعة الانتخابات، ليأسٍ شديدٍ من نتائجها، وعدم جدوى بذل الجهد في سبيلها، في ظل سلبيةٍ مزاجيةٍ شعبيةٍ لافتةٍ، تحاول الأحزاب تبديدها وإخراج المستوطنين منها، ودفعهم للمشاركة الفاعلة والتصويت الكثيف، واعتبار ذلك مهمة وطنية ومسؤولية قومية لا ينبغي التقصير فيها أو التخلي عنها، في ظل وعودٍ يطلقها قادة الأحزاب أنهم سينفذون وعودهم، وسيلبون طلبات جمهورهم.
أما الأمر الآخر اللافت والمثير للانتباه، فهو حالة التصادم والاشتباك بين أطراف التكتلين وأحزاب الفريقين، فاليمين الإسرائيلي الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو رئيس حزب الليكود، قد أعلن الحرب على شريكته إيليت شاكيت رئيس حزب البيت اليهودي، واتهمها بأنها تحاول سرقة أصوات حزبه والتأثير على الناخبين له، لتتمكن من تجاوز نسبة الحسم، بعد أن شعرت بأنها قد اقتربت منها للمرة الأولى، حيث كانت أغلب استطلاعات الرأي تمنحها نسبة 1.1، لكنها تمكنت في الأيام القليلة الماضية من الحصول على 2.6، ما يعني أن آمالها في التمثيل البرلماني قد انتعشت.
وفي الوقت نفسه فقد قام نتنياهو بطرد قادة اليمين الديني المتطرف وهم حلفاؤه الجدد وشركاؤه المؤكدون، ورفض أن يشاركهم الكلمة أو تلتقط له صورة معهم، وأجبر ايتمار بن غفير على النزول من على المنصة، وكذلك فعل الشئ نفسه مع بتسليئيل سموتريتش، واتهمهما بمحاولة سرقة أصوات حزبه، والتأثير على الناخبين الموالين له، رغم أن سلوكه لا يخلو من إشاراتٍ واضحة ومقصودة، أنه قد لا يتحالف معهما، ولن يشركهما في حكومته، ليفسح المجال أمام بعض أحزاب يمين الوسط، الذين يشاركون في معسكر البديل، لينظموا إلى تحالفه ويشتركوا معه في حكومةٍ أكثر استقراراً.
أما في الجانب الآخر والتكتل المعارض الذي يتزعمه رئيس حكومة تصريف الأعمال يائير لابيد، فإن الخلافات الحزبية تعصف به وبشركائه الذين يتهمونه بتفتيت أحزابهم والتأثير على ناخبيهم، ونقلهم إلى معسكره، فقد ظهرت نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، التي أظهرت ارتفاع مقاعد حزب “هناك مستقبل” إلى 28 عضواً، عن هجرة بعض أصوات حزبي العمل وميريتس إلى حزب “ييش عتيد”، وتراجع مستوى تمثيل الحزبين إلى خمسة مقاعد وربما أقل، الأمر الذي من شأنه أن يهدد وجودهم ويعقد من احتمالية تجاوزهم لنسبة الحسم.
رغم أن أفيغودو ليبرمان زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” يدعي أنه الحزب الثابت والأكقر استقراراً والأقل تأثراً بالمتغيرات، وأن تمثيله لا يتغير، إلا أن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والمواقف الإسرائيلية المرتعشة تجاه أطراف الحرب، تضعه وحزبه في مهب الرياح، فجل ناخبيه هم من أصولٍ روسية وأوكرانية، وقد شعر الطرفان بخذلان الحكومة الإسرائيلية لبلديهما.
أما بالنسبة للعرب، الذين عصف بهم اختلاف قوائمهم وتناقض أحزابهم، وعدم مسؤولية كبارهم، بعد خروج حزب التجمع الذي يرأسه سامي أبو شحادة، بالإضافة إلى إحساسهم بعدم قدرتهم على التأثير الكبير، فإنهم لا يبدون رغبةً كبيرةً في المشاركة في الانتخابات، ومن المؤكد أن نسبة تصويتهم ستنخفض، رغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن القائمتين العربيتين المشتركة والموحدة، سيحققان أربعة مقاعد لكلٍ منهما، إلا أن هذه النتائج تبقى متأرجحة، ولا تحسمها إلا صناديق الانتخابات.
الإسرائيليون قلقون، والأمريكيون يراقبون، وربما هذا حقهم وهو شأنهم، لكن الذي نخشى منه ونخاف، هو رهان بعض العرب والفلسطينيين على نتائج الانتخابات، واعتقادهم أنها قد تغير الواقع وتبدل الحال، وأن بعضهم سيكون أفضل من غيرهم، ويمينهم المعتدل أقرب إلى السلام من يمينهم المتطرف، وما عرفوا أنهم جميعاً ملةً واحدةً، وجبهةً ضدنا مشتركةً، وأنهم جميعاً شركاء في قتلنا والعداء لنا، ولا خير يرجونه لنا ولا سلام يأملونه معنا.
* د. مصطفى يوسف اللداوي كاتب فلسطيني