في الحياة الديمقراطية، يظل “عرض الحصيلة” ممارسة مشروعة من حيث المبدأ: شرح ما أُنجز، وما تعثّر، وما ينتظر الاستكمال، وتقديم التزامات واضحة للرأي العام. غير أنّ الإشكال يبدأ عندما ينزاح هذا العرض من فضاء المحاسبة المؤسساتية إلى فضاء التعبئة الحزبية، وعندما يتحول من تمرين تواصلي قائم على الأرقام القابلة للتحقق إلى جولات ميدانية تُبنى بمنطق المهرجان، وتُدار بروح التنافس، وتُختار لها التوقيتات بعناية لاستباق مزاج الناخبين. هنا تصبح “الحصيلة” عنواناً مُلتبساً: هل هي تواصل حكومي طبيعي، أم حملة انتخابية قبل الأوان تُقدَّم في لباس شرعي؟
خلال ما تبقى من الولاية، ومع تزايد ضغط الملفات الاجتماعية والاقتصادية، تتجه الأنظار إلى ما إذا كانت الحكومة ستستثمر الزمن المتبقي لإصلاح الاختلالات بأدوات السياسات العمومية، أم أنها ستستثمره لترميم الصورة السياسية بأدوات التواصل الجماهيري. ذلك أن السنوات الأخيرة من عمر أي حكومة غالباً ما تتحول إلى لحظة فاصلة: إما تُستخلص فيها الدروس وتُراجع الاختيارات، أو تُختزل إلى سباق على الانطباع العام عبر “تسويق المنجز” وتخفيف وطأة النقد. وفي السياق المغربي، أثارت تجمعات قُدّمت باعتبارها “عرضاً للحصيلة” جدلاً واسعاً لأنها تَحمل في شكلها ومضمونها وتوقيتها مؤشرات حملة مبكرة أكثر مما تحمل ملامح تقييم شفاف.
أول عناصر هذا الالتباس هو الشكل. فالمشهد الذي يطغى على هذه اللقاءات أقرب إلى لقاءات التعبئة الحزبية منه إلى عرض للسياسات العمومية: منصات، حشود، خطابات حماسية، وحضور تنظيمي يشتغل بمنطق الإقناع الانتخابي لا بمنطق البيان الحكومي. وحين يكون المتحدث رئيس الحكومة أيضاً هو زعيم الحزب الأكبر في الأغلبية، يصبح التمييز بين صفة الدولة وصفة الحزب أكثر هشاشة، حتى لو قيل إن اللقاء حزبي. فالرمزية السياسية هنا تقوم بدور “المضاعف”: كل كلمة تُقال باسم “الحصيلة” تُقرأ كرصيد انتخابي، وكل إنجاز حكومي يُنسب تلقائياً إلى الحزب، لا إلى الدولة ومؤسساتها.
ثاني عناصر الالتباس هو المضمون. عرض الحصيلة بالمعنى الجدي يفترض الاعتراف بما لم يتحقق، ووضع أرقام محددة، وبيان مؤشرات قياس موضوعية، وتفسير الفوارق بين الوعود والنتائج، وفتح الباب لأسئلة محرجة حول الكلفة والفعالية والاستدامة. أما عندما تتحول “الحصيلة” إلى قصة نجاح مكتملة تُحكى للجمهور من طرف واحد، فإنها تغادر معنى المحاسبة وتدخل معنى التسويق. التسويق السياسي لا يلتزم عادةً بمنطق “الصدق الكامل” بل بمنطق “الأثر”: اختيار أجمل ما وقع، تكثيفه، تبسيطه، وربطه بخطاب عاطفي يستهدف استدرار الثقة والتعاطف. وفي مجتمع يتزايد فيه الاحتقان بسبب غلاء المعيشة وتفاوت الخدمات، يصبح خطاب “انظروا إلى ما فعلنا” محاولة لتخفيف وطأة الإحساس اليومي بالضغط، لا معالجةً جذرية لأسبابه.
أما ثالث عناصر الالتباس فهو التوقيت. ففي الأنظمة الانتخابية، هناك فرق بين زمن التدبير وزمن الحملة. صحيح أن القانون يحدد زمن الحملة الرسمية، لكن السياسة لا تتحرك فقط داخل النصوص، بل أيضاً داخل الأعراف وروح المنافسة. وعندما تتسارع الجولات وتتكثف التجمعات في نهاية الولاية، وتترافق مع لغة توحي بطلب تجديد الثقة قبل الوصول إلى الاستحقاق، فإن الرسالة تصبح واضحة: التحضير للانتخابات بدأ عملياً، ولو لم يبدأ قانونياً. هنا يتكون ما يمكن تسميته بـ“حملة بحكم الواقع”: لا تُعلن نفسها حملة، لكنها تمارس وظائف الحملة كاملة؛ بناء سردية، خلق زخم، تعبئة القواعد، تحصين القيادة، وتوجيه النقاش العام نحو “المنجز” بدل “الاختلالات”.
في هذا السياق يبرز سؤال الإنصاف بين الفاعلين السياسيين. إذ يمنح هذا النوع من “عرض الحصيلة” أفضلية بنيوية لحزب رئيس الحكومة، لأنه يستفيد من تداخل الشرعيتين: شرعية التدبير وشرعية المنافسة. فالقدرة على تقديم السياسات العمومية كرصيد حزبي تُراكم نقاطاً لا تتوفر للمعارضة بالطريقة نفسها، لأنها لا تملك سلطة القرار ولا قدرة الظهور بنفس الزخم تحت عنوان “الحصيلة”. وحتى حين لا تُستعمل وسائل الدولة مباشرة في التنظيم، فإن الأثر الرمزي قائم: صورة رئيس الحكومة وهو يعرض “إنجاز الدولة” تتحول إلى مادة انتخابية تلقائية لحزب بعينه. بهذه الطريقة، تُستغل ميزة الموقع الحكومي كرافعة للسبق السياسي، بينما تُترك باقي الأحزاب لتنافس في ملعب أقل اتساعاً.
وتتفاقم هذه المفارقة حين يرتبط “عرض الحصيلة” بمحاولة استدرار التعاطف في ظرف اجتماعي صعب. فبدل أن يُقدَّم التقييم بوصفه لحظة صراحة، يتحول إلى ممارسة دفاعية: تبرير الاختيارات، تحويل النقد إلى سوء فهم، وربط كل تعثر بالعوامل الخارجية. صحيح أن الأزمات العالمية والجفاف والتضخم عوامل مؤثرة، لكن تحويلها إلى شماعة دائمة يفقد الخطاب مصداقيته. لأن المطلوب في النهاية ليس سرد الأسباب فقط، بل تقديم حلول ملموسة يشعر بها المواطن في الأسعار، وفي الصحة، وفي التعليم، وفي فرص الشغل. حين يغيب هذا الأثر الملموس، يصبح “التعاطف” الذي تُراهن عليه المهرجانات هشاً ومؤقتاً، وقد ينقلب إلى غضب أكبر لأنه يُشعر الناس بأن معاناتهم تُستعمل كخلفية لصناعة الخطاب لا كموضوع للسياسة.
الأكثر خطورة في هذا النوع من الممارسات أنه يفرغ معنى السياسة من محتواه المؤسساتي. فالديمقراطية ليست مهرجانات فقط، بل هي أيضاً رقابة برلمانية، ومحاسبة، وتوازن سلط، وتكافؤ فرص. عرض الحصيلة الأقرب للمعايير الديمقراطية يجب أن يمر عبر قنوات تضمن التعددية: جلسات برلمانية تُطرح فيها الأسئلة الصعبة، تقارير مفصلة منشورة للعموم، مؤشرات قابلة للتدقيق، ومقارنة بين الأهداف والنتائج. أما حين يتم استبدال كل ذلك بفضاء التجمعات والتعبئة، فإن السياسة تتحول إلى مسرح: صورة أقوى من الفكرة، وهتاف أعلى من الرقم، وانطباع أسرع من الحقيقة.
ولذلك، فإن البديل ليس منع الحكومة من التواصل، بل تصحيح شروطه. من جهة أولى، يقتضي الأمر فصلاً صارماً بين خطاب الدولة وخطاب الحزب: عندما يتحدث رئيس الحكومة باسم التدبير العمومي، يجب أن يتكلم بلغة مؤسساتية تشرح السياسات وتتحمل المسؤولية، لا بلغة تنافسية تستبق الاستحقاق. ومن جهة ثانية، يتطلب الأمر تعزيز الآليات التي تضمن تكافؤ الفرص: إنصاف إعلامي، نقاش عمومي مفتوح، وإتاحة المجال لباقي الأطراف لتقديم قراءتها للمنجز والتعثر دون أن يطغى صوت السلطة التنفيذية على المجال العام. ومن جهة ثالثة، يظل جوهر السياسة في النتائج لا في العروض؛ فالمواطن لا يحكم على الخطاب ببلاغته، بل على حياته بواقعها.
في النهاية، تتحدد قيمة “الحصيلة” بمدى صدقها وجرأتها، لا بحجم جمهورها. وما تبقى من عمر الولاية ليس وقتاً لإعادة طلاء الصورة، بل وقت لإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل أن يتحول التراكم إلى أزمة ثقة مستدامة. فإذا استُعمل “عرض الحصيلة” كقنطرة نحو حملة مبكرة، فإنه يخلق اختلالاً في التنافس ويُضعف الثقة في حياد المجال السياسي. أما إذا استُعيدت الحصيلة إلى معناها الحقيقي—المحاسبة، الاعتراف، التصحيح—فيمكن حينها أن تصبح لحظة نضج ديمقراطي، لا مجرد محطة انتخابية قبل أوانها.















