عاد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى واجهة النقاش السياسي بخطاب صادم ألقاه في فاتح ماي، لكن هذه العودة لم تأتِ بما يعيد وهج الحزب أو يبلور رؤية بديلة، بل أثارت جدلاً واسعاً حول حدود الخطاب السياسي وأخلاقياته. تصريحات بنكيران التي استخدم فيها عبارات مهينة مثل “الميكروبات” و”الحمير” في حق فئات من المواطنين والنقابيين، قسمت الرأي العام بين من اعتبرها انزلاقًا أخلاقيًا ومن قرأها كصرخة سياسية في وجه “الاستكانة” الرسمية تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين.
ما قاله بنكيران لا يمكن فصله عن أسلوبه السياسي الذي عُرف به منذ صعوده إلى رئاسة الحكومة في 2011: خطاب مباشر، انفعالي، يحاكي الوجدان الشعبي أكثر مما يراهن على لغة المؤسسات. لكن هذا النمط، الذي خدمه في زمن الحراك، أصبح عبئًا في سياق سياسي مختلف، عنوانه التراجع الديمقراطي، تفكك الأحزاب، وصعود نوع من اللاسياسة. لهذا فإن خطاب بنكيران، رغم ما فيه من جرأة، يعكس في عمقه ارتباكًا بين التعبئة السياسية وبين نزعة تصفية الحساب مع كل من لا يساير رؤيته.
إقحام القضية الفلسطينية في هذا السياق زاد من تعقيد الجدل، إذ اعتبر كثيرون أن بنكيران يحوّل مأساة شعب تحت الاحتلال إلى أداة لتأنيب خصومه الداخليين، بل لشرعنة إقصاء من يختلف معه. هذا التوظيف، وإن كان شائعًا في الأدبيات الحزبية منذ عقود، يبدو اليوم مُستهلكًا ومثيرًا للريبة، خاصة حين يصدر من زعيم سياسي كان في موقع السلطة وساهم بدوره في تنزيل اتفاقات ذات طابع تطبيعي باسم “مصلحة الدولة”. هنا تظهر المفارقة: الدفاع عن فلسطين يصبح ذريعة لتخوين النقابات، بينما تُهمَّش أولويات المواطنين بدعوى النضال من أجل قضايا الخارج. والمفارقة الأكبر أن من يرفع شعار الغضب الشعبي لا يتردد في شيطنة هذا الشعب حين يختلف معه.
من جهة أخرى، لا يمكن عزل هذا الخطاب عن مأزق حزب العدالة والتنمية بعد الهزيمة القاسية في انتخابات 2021. فبنكيران عاد إلى قيادة الحزب كخيار اضطراري بعد فراغ القيادة وغياب بدائل تنظيمية مقنعة. وهو ما يفسر محاولته استعادة المبادرة بأسلوب الصدمة، إذ يبدو أن خطابه لم يكن موجهاً فقط ضد خصومه، بل أيضاً ضد منطق التلاشي الذي يهدد الحزب. غير أن هذا الأسلوب، الذي يُراكم الجدل ويستفز الإعلام، لا يضمن بالضرورة استعادة الثقة، بل قد يعمق العزلة السياسية ويؤكد لدى الرأي العام صورة حزب فقد البوصلة بين المعارضة والبحث عن توازن داخلي.
ما حدث في فاتح ماي ليس مجرد زلة لسان أو لحظة انفعال، بل تجلٍّ واضح لأزمة أعمق يعيشها الخطاب السياسي في المغرب. إذ تتحول القضايا الكبرى إلى أدوات في الصراع الداخلي، ويُستعمل الدين أو القضية الفلسطينية لإخفاء ضعف البدائل الاجتماعية. هذا الوضع يُحيلنا إلى سؤال مركزي: هل ما زالت السياسة قادرة على إنتاج خطاب عقلاني، مسؤول، يقنع دون أن يجرّح، ويقارع دون أن يشيطن؟ أم أننا دخلنا مرحلة جديدة يتصارع فيها الجميع على “الاحتكار الرمزي” للحديث باسم الشعب، ولو على حساب المنطق واللباقة؟
خطاب بنكيران، بكل ما أثاره من جدل، ليس استثناءً، بل ربما مرآة لزمن سياسي مأزوم تُختزل فيه القضايا في الأشخاص، وتُختزل فيه المعارضة في الغضب، وتُختزل فيه المواقف في لحظات انفعالية. لكن حين يُختزل السياسي في الانفعال، فلا شك أن الكلفة ستكون أعلى من مجرد ردود فعل غاضبة على فيسبوك.