في الوقت الذي تتجه فيه أنظار المغاربة، حكومة وشعباً، صوب السواحل، حيث ترتفع محطات تحلية مياه البحر كطوق نجاة أخير ومكلف لمواجهة شبح العطش؛ تجري في الحقول مفارقة عبثية صامتة. فبينما تُرصد المليارات لتحويل “الماء المالح” إلى قطرات حياة، تعبر القوافل التجارية الموانئ يومياً، لا تحمل مجرد سلع غذائية، بل تحمل في جوفها ملايين الأمتار المكعبة من مياهنا الجوفية العذبة والنادرة، مُعلبة في هيئة بطيخ أحمر، وفواكه حمراء، وحمضيات، وأفوكادو، لتزين موائد الأسواق الأوروبية.
لم يعد النقاش اليوم محصوراً في “فاكهة دخيلة” بعينها، بل اتسع ليشمل نمطاً إنتاجياً كاملاً راهن لسنوات على “زراعات العطش”. فمن حقول البطيخ التي أنهكت واحات الجنوب الشرقي، إلى ضيعات الفواكه الحمراء والأفوكادو التي تستنزف أحواض الغرب واللوكوس، يبدو المشهد وكأنه سباق غير متكافئ: مواطن يُطالب بترشيد الاستهلاك ويُمنع من كماليات الحياة المعتادة، مقابل قطاع تصديري يواصل “شحن” المخزون المائي الاستراتيجي نحو الخارج تحت شعار “تثمين الفلاحة”.
اليوم، ونحن ندفع فاتورة باهظة لتحلية مياه البحر لتعويض ما نضب من السدود والآبار، يفرض السؤال الحارق نفسه بقوة، بعيداً عن لغة الخشب: هل نجح “المخطط الأخضر” في جلب العملة الصعبة، لكنه فشل في حماية “العملة الأغلى” وهي الماء؟ وهل كان من الحكمة تشجيع التوسع في زراعات استوائية وأخرى شرهة للمياه في بلدٍ تصنفه الخرائط المناخية ضمن المناطق شبه الجافة، لنجد أنفسنا في النهاية نشرب من البحر بتكلفة عالية، بينما نبيع مياهنا الجوفية بأبخس الأثمان؟
في هذا المقال، نفتح ملف “تصدير الماء”، ليس للنيل من نجاحات الفلاحة المغربية، بل لمساءلة السياسات العمومية التي ربما غلّبت منطق السوق والتصدير على منطق الاستدامة والأمن المائي القومي.
“الماء الافتراضي”.. حين نبيع الذهب الأزرق بثمن التراب
لفهم عمق هذه المفارقة، يجب أن نتحرر قليلاً من لغة “الأطنان المُصدّرة” ونتحدث بلغة “الأمتار المكعبة المفقودة”، وهنا يبرز المفهوم العلمي المعروف بـ “الماء الافتراضي”. ببساطة، عندما نُصدر كيلوغراماً واحداً من الأفوكادو، فنحن عملياً لا نُصدر مجرد فاكهة خضراء، بل نقتطع من مخزوننا الجوفي ما يقارب 1000 لتر من الماء العذب (حسب تقديرات الخبراء للمتوسط العالمي). الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للبطيخ الأحمر الذي استنزف فرشات زاكورة وطاطا، أو الحمضيات والفواكه الحمراء التي تتطلب جداول ري مكثفة ودقيقة.
إننا، وبشكل غير مباشر، نحول مياهنا الجوفية التي تكونت عبر مئات السنين إلى “سلعة” تُشحن في الحاويات، لكن المفارقة الكبرى تكمن في “سعر هذا الماء”. ففي الوقت الذي تتجه فيه الدولة لتحلية مياه البحر بتكلفة باهظة (قد تتجاوز 10 دراهم للمتر المكعب بالإضافة لتكلفة النقل) لتأمين مياه الشرب، تخرج ملايين الأمتار المكعبة من المياه العذبة عبر الموانئ “مجاناً” أو بتكلفة شبه منعدمة، مخبأة داخل أنسجة هذه الفواكه. نحن، بلغة الاقتصاد الصرفة، نمارس نوعاً من “الإغراق العكسي”: نشتري الماء المُحلى بالعملة الصعبة (تكنولوجيا وطاقيا)، ونبيع الماء الطبيعي النقي بأبخس الأثمان، وكأننا ندعم رفاهية المستهلك الأوروبي من جيب أمننا المائي.
الوجه الآخر للأزمة: “حرب الآبار” واغتيال الفلاح الصغير
بعيداً عن لغة الميزان التجاري، تتجلى المأساة في أقسى صورها حين ننزل إلى الميدان، لنشهد فصول “حرب آبار” غير متكافئة تدور رحاها في صمت. ففي الوقت الذي تمتلك فيه الضيعات الاستثمارية الكبرى، المدعومة برؤوس أموال ضخمة، الإمكانيات التقنية لحفر آبار بعمق مئات الأمتار لمطاردة المياه أينما هربت؛ يجد الفلاح الصغير نفسه عاجزاً ومحاصراً أمام جفاف بئره السطحي المتواضع. حيث إن المضخات العملاقة للشركات الكبرى لا تسحب الماء فقط، بل تسحب الحياة من الأراضي المجاورة، وتتسبب في هبوط حاد لمستوى الفرشة المائية، مما يحكم بالإعدام على الزراعة المعيشية البسيطة.
والنتيجة الاجتماعية لهذا الخلل كارثية بامتياز؛ فليس مستبعدا أن نشهد تحول آلاف المزارعين من منتجين للغذاء ومتمسكين بأرضهم إلى “لاجئي مناخ” داخل وطنهم. وقد يضطرون لبيع أراضيهم أو هجرها للزحف نحو هوامش المدن بحثاً عن لقمة العيش، بعد أن “شربت” الفواكه المعدة للتصدير أرزاقهم. إننا بهذا النمط لا نستنزف الماء فحسب، بل نضرب الاستقرار الاجتماعي في مقتل، ونرسخ “طبقية مائية” مقيتة: الماء لمن يملك المال لضخه من الأعماق، والعطش لمن لا يملك إلا النظر إلى سمائه بانتظار مطر قد لا يأتي.
مسؤولية «المخطط»: هل هندسنا العطش بأيدينا؟
لا يمكن اختزال الأزمة الحالية في “غضب السماء” أو “تغير المناخ” فحسب؛ فتعليق شماعة العطش على الطبيعة وحدها هو نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فيتعلق بخيارات سياسية واعية دُبرت لسنوات. لقد شجع “مخطط المغرب الأخضر”، ولعقد من الزمن، التوسع في الزراعات التصديرية ذات القيمة المضافة العالية، مغرياً المستثمرين بدعم سخي وتسهيلات غير مسبوقة لتجهيز الضيعات بأنظمة الري الموضعي. وكانت الدولة، -وبنية حسنة ربما- لرفع الناتج الداخلي الخام، تمول بشكل غير مباشر استنزاف مخزونها المائي، مفضلة “العملة الصعبة” السريعة على “الأمن الغذائي” الاستراتيجي.
وحتى القرارات الأخيرة التي اتخذتها وزارة الفلاحة بوقف الدعم عن زراعات الأفوكادو والحوامض والبطيخ، رغم كونها “اعترافاً ضمنياً” بخطورة الوضع، إلا أنها تبدو وكأنها محاولة “لوقف النزيف بعد فوات الأوان”. فالأشجار غُرست، والاستثمارات ضُخت، والآبار حُفرت، وهذه الضيعات ستستمر في طلب حصتها من الماء لسنوات قادمة سواء دُعمت أم لا. إننا ندفع اليوم ثمن هندسة فلاحية جعلت من المغرب “حديقة خلفية” لأوروبا، نوفر لها الخضر والفواكه الطرية على مدار السنة، بينما فقدنا سيادتنا الغذائية في الحبوب والزيوت، وأصبحنا مرتهنين لتقلبات السوق الدولية ولرحمة السماء.
حين يصبح “الأخضر” عدواً لـ “الأزرق”
ويكشف تقييم حصيلة “مخطط المغرب الأخضر” اليوم، ونحن نقف على حافة الإجهاد المائي، عن خلل بنيوي في الرؤية الاستراتيجية التي أطّرت القطاع لعقد ونصف. حيث تعامل المخطط مع الموارد المائية وكأنها معطى ثابت لا ينضب، مركزاً كل جهوده على “الإنتاجية القصوى” و”أرقام التصدير”، متجاهلاً حقيقة الجغرافيا والمناخ التي تصنف المغرب كبلد مهدد بالشح المائي. وكانت “الخطيئة الأصلية” للمخطط هي فصل الطموح الفلاحي عن الواقع المائي، مما خلق نجاحاً ظاهرياً في أرقام المعاملات، لكنه نجاح بطعم العطش، تأسس على استنزاف رصيد الأجيال القادمة من الماء.
وأدت هندسة هذا المخطط، علاوة على ذلك، إلى تشوه صارخ في مفهوم “السيادة الغذائية”. فبدلاً من التركيز على الزراعات الاستراتيجية التي تشكل عماد المائدة المغربية (كالقمح والحبوب والزيوت)، تم توجيه الدعم والاستثمار نحو “زراعات الترف” الموجهة للتصدير. والنتيجة اليوم هي أننا نبيع مياهنا الرخيصة في شكل فواكه لأوروبا، ونضطر لاستنزاف احتياطي العملة الصعبة لاستيراد غذائنا الأساسي من حبوب وقطاني، في معادلة اقتصادية خاسرة تجعلنا تابعين للخارج في قوتنا اليومي، ومستنزفين للداخل في ثروتنا المائية.
ويبقى الدرس القاسي الذي يفرض نفسه الآن، هو أن الانتقال إلى استراتيجية “الجيل الأخضر” لا يجب أن يكون مجرد تغيير في التسميات، بل يجب أن يشكل قطيعة حقيقية مع منطق “التصدير أولاً”. لا يمكن استمرار المراهنة على الفلاحة كقاطرة وحيدة للتنمية والتشغيل إذا كان وقود هذه القاطرة هو تدمير النظم البيئية. يجب إعادة تكييف الخريطة الزراعية بناءً على “الميزانية المائية” لكل جهة، بحيث يصبح الماء هو المحدد لنوع الزراعة وليس طلب الأسواق الخارجية، حتى لو تطلب الأمر التخلي نهائياً عن زراعات دخيلة لا مكان لها في هويتنا المناخية.
وفي المحصلة، لن يغفر التاريخ، ولا الأجيال القادمة، لجيلنا إن نحن تركنا لهم سدوداً فارغة وآباراً جافة مقابل سنوات من الرخاء التصديري المؤقت. حيث إن الأمن المائي هو الركيزة الأولى للأمن القومي، وأي مخطط تنموي لا يضع “قطرة الماء” فوق “درهم الربح”، هو مخطط يحمل بذور فشله في طياته. لقد حان الوقت لنعترف بشجاعة: لا يمكننا أن نكون “بستان أوروبا” على حساب عطش المغاربة.















