في تقريرها الأخير، كشفت المندوبية السامية للتخطيط عن الأثر الكبير الذي يترتب على ضعف التمكين الاقتصادي للنساء في المناطق القروية بالمغرب. هذه الظاهرة لا تشكل فقط تحديًا اجتماعيًا، بل تحمل معها تبعات اقتصادية مباشرة تضر بالناتج المحلي الإجمالي للبلاد، حيث تقدر خسارة الاقتصاد الوطني بحوالي 2.2% من الناتج الداخلي الخام في سنة 2019. ولكن رغم هذه الأرقام الصادمة، يبدو أن هذه الظاهرة لا تجد من الاستجابة ما يعكس حجمها الكبير على أرض الواقع.
تظهر البيانات أن 60.3% من النساء القرويات النشيطات يعملن كمساعدات عائليات، وغالبًا دون أجر. هذه الأرقام تفضح واقعًا مؤلمًا يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي للنساء في المناطق القروية. فالعمل غير المأجور، الذي تشكل النساء الجزء الأكبر منه، لا يقتصر فقط على الزراعة أو الرعاية المنزلية، بل يشمل أيضًا المساهمة في الأنشطة التجارية الصغيرة التي لا تحصل فيها النساء على أي مقابل مادي. وهذا الوضع يشير إلى تجاهل المجتمع والمجتمعات المحلية لدور المرأة في التنمية الاقتصادية، وعدم اعتراف بالجهود المبذولة، بل أكثر من ذلك، يتم تحميلها العبء الأكبر من مسؤوليات الأسرة بدون مكافأة مالية.
لكن الأرقام التي عرضتها المندوبية السامية للتخطيط تتعدى حدود العمل غير المدفوع الأجر. تشير البيانات إلى أن 70.5% من النساء في العالم القروي “لا يحصلن على أي مقابل مالي” رغم مشاركتهن في الأنشطة الاقتصادية. إذن، نحن أمام واقع لا يعكس فقط غياب حقوق النساء الاقتصادية، بل يشير أيضًا إلى واقع اقتصادي غير مستدام يعتمد على استغلال العمل غير المدفوع.
هناك عدة أسباب تعمق من هذه الفجوة الاقتصادية بين الجنسين في المناطق القروية، أولها هو نقص التعليم والتدريب المهني. فبينما يُحظى الذكور بفرص تعليمية أكثر، تجد النساء في القرى أنفسهن في غالب الأحيان يواجهن تحديات تتعلق بالوصول إلى التعليم الجيد، خاصة في المراحل المتقدمة. هذا الأمر يعزز من محدودية الفرص المتاحة لهن في سوق العمل. تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الأمية لدى النساء القرويات تظل مرتفعة، حيث تصل إلى 48.4% في حين أن نسبة الأمية بين الرجال في نفس المناطق لا تتعدى 27.9%. هذه الفجوة ليست فقط مؤشرًا على تفاوت الفرص، بل تمثل عائقًا رئيسيًا أمام مشاركتهن الفعالة في الحياة الاقتصادية.
إلى جانب ذلك، تظل القيود الاجتماعية أحد أكبر المعيقات التي تواجه النساء القرويات. الأعراف المجتمعية، التي تُفرض على النساء في بعض القرى، تحجم دورهن الاقتصادي وتجعلهن حبيسات المنازل. في العديد من الحالات، لا يُسمح لهن بالمشاركة في الأنشطة الاقتصادية خارج المنزل، مما يُجبرهن على الاكتفاء بالأعمال المنزلية أو الزراعية غير المدفوعة.
قد يبدو أن خسارة 2.2% من الناتج الداخلي الخام أمر بعيد عن التأثير المباشر في حياة المواطن العادي، لكن الحقيقة أن هذه النسبة تمثل ضياعًا لفرص اقتصادية حقيقية كان بالإمكان استغلالها لتوفير المزيد من الوظائف، وتحقيق معدلات نمو اقتصادية أعلى. إذا كانت النساء القرويات يشكلن جزءًا أساسيًا من القاعدة العمالية في المجتمع، فإن غيابهن عن دائرة الإنتاج الرسمي يعوق تنمية القطاع الزراعي والصناعي بشكل كبير.
المشكلة تتسع أيضًا حينما نلاحظ أن النساء القرويات لا يساهمن فقط في الجانب الإنتاجي، بل يلعبن دورًا هامًا في دعم استقرار الأسر وتنميتها. غياب الفرص الاقتصادية المدفوعة الأجر ينعكس سلبًا على قدرة الأسر على تحسين أوضاعها المعيشية، مما يعزز من دائرة الفقر التي لا تنكسر بسهولة.
في خضم هذا الواقع المعقد، يظل السؤال الأهم: كيف يمكن تحسين الوضع الاقتصادي للنساء في المناطق القروية؟
أولًا، من الضروري أن تُخصص برامج دعم أكبر لتنمية القدرات التعليمية والتدريبية للنساء في المناطق القروية. يجب العمل على تحسين الوصول إلى التعليم الثانوي والعالي، خاصة في القرى البعيدة، وتوفير فرص تدريب مهني حقيقية تمكّن النساء من التموقع في القطاعات المنتجة.
ثانيًا، يجب أن يتم وضع سياسات تشجيعية لدعم الأعمال النسائية الصغيرة والمتوسطة، من خلال تسهيل الوصول إلى التمويل وتقديم الحوافز الضريبية للمشاريع التي يقودها النساء.
وأخيرًا، لابد من العمل على إزالة القيود الاجتماعية التي تحد من مشاركة النساء في الأنشطة الاقتصادية، من خلال برامج توعية للمجتمعات المحلية تبرز الدور الحيوي للمرأة في التنمية الشاملة.
إن التمكين الاقتصادي للنساء ليس مجرد رفاهية أو ترف، بل هو ضرورة اقتصادية واجتماعية تساهم في تحقيق النمو المستدام وتحسين مستوى الحياة في البلاد. ولكن ما لم تتغير السياسات المحلية وتُبذل جهود حقيقية لتحقيق العدالة الاقتصادية، فإن ما تُظهره الإحصائيات من خسائر ستظل جزءًا من المشهد القاسي الذي يعكس التهميش المستمر للمرأة في المغرب.