يمثل غياب رئيس الحكومة الحالي عن المؤتمر الوطني الأخير لحزب العدالة والتنمية لحظة دالة تستوجب تفكيكاً يتجاوز القراءة السطحية أو الاختزالية.
فهذه الواقعة، وإن بدت للبعض تصرفاً شخصياً من عبد الإله بنكيران، إلا أنها في العمق تعبير عن تموضع سياسي ينبني على تشخيص سياقي لطبيعة التوازنات الراهنة.
لذلك، لا يمكن إدراك دلالاتها إلا من خلال إدراجها ضمن بنية أوسع تتعلق بما يمكن تسميته بتناقض المرحلة في المسار السياسي المغربي.
يعكس الجدل حول خلفيات هذا القرار انقساماً منهجياً في مقاربة الظواهر السياسية. فمن جهة، هناك من يربط غياب أخنوش عن المؤتمر بخيارات ذاتية أو ردود فعل مرتبطة بتوترات سابقة بين القيادتين، ومن جهة أخرى، تبرز مقاربة أكثر تركيباً ترى في الأمر تعبيراً عن فهم دقيق لطبيعة التحولات التي طرأت على بنية السلطة بعد انتخابات 2016.
الاعتماد على التحليل النفسي لفهم السلوك السياسي يُفضي إلى نتائج قاصرة، لأنه يُغيب الطبيعة المتغيرة للسياقات السياسية، ويستعيض عنها بتأويلات تستند إلى النوايا المفترضة أو المزاج الشخصي، وهي مقاربة لا تفي بشرط التفسير العلمي.
من أبرز الإشكالات في التعاطي مع مواقف بنكيران ما يُستنتج من تغير في خطابه تجاه فاعلين سبق أن أبدى تجاههم مواقف إيجابية، كما حدث مع أخنوش في مرحلة 2011–2016. لكن هذا التغير لا يندرج ضمن ما يمكن نعته بالتناقض، بل هو نتاج تحول في المواقع والأدوار داخل النسق السياسي نفسه.
فعندما تم اقتراح أخنوش وزيراً في حكومة بنكيران الأولى، كان يمثل فاعلاً ثانوياً في حقل يهيمن عليه صراع واضح بين حزب العدالة والتنمية وتيارات محافظة داخل الدولة.
أما بعد انتخابات 2016، فقد تحوّل إلى أحد العناصر المركزية في إعادة ضبط التوازن السياسي، بل وفي تعطيل مسار تشكيل الحكومة، وهو ما أعاد رسم خريطة الصراع السياسي وجعل من أخنوش تجسيداً لاتجاه مضاد لمسار الإصلاح المؤسساتي.
يستند الموقف من أخنوش إلى ما يمكن اعتباره تجسيداً لتناقض اللحظة، لا إلى خصومة دائمة أو مبدئية.
فالفعل السياسي في ظل انتقال ديمقراطي ليس تعبيراً عن اصطفافات نهائية، بل هو استجابة مرنة للمعطيات المتغيرة.
وهنا يمكن استحضار مفهوم الخصم المرحلي، الذي يتبدل بتبدل مواقع النفوذ وأشكال التموقع داخل الحقل السياسي.
في هذا الإطار، فإن عدم دعوة رئيس الحكومة للمؤتمر لا يُفهم كإقصاء رمزي فقط، بل كموقف سياسي من بنية الحكم الحالية، التي يرى حزب العدالة والتنمية أنها قامت على إخراج غير ديمقراطي لإرادة الناخب بعد انتخابات 2016.
أما ما يتعلق بمستقبل العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار، فالسؤال يفترض خطأً أن المواقف السياسية ثابتة وأن الخلافات الراهنة ذات طابع شخصي دائم.
في حين أن الواقع السياسي المغربي، ومنذ بداية مسلسل الانتقال الديمقراطي، أظهر مرونة في التحالفات، تُحددها طبيعة التناقضات في كل لحظة تاريخية.
فالتحالف مع الاستقلال سنة 2016، رغم ما شابه من صراعات سابقة، والتحالف مع الأحرار بعد 2013 رغم التوترات، يشيران إلى أن محددات التفاعل السياسي في المغرب ليست شخصية أو أخلاقية بقدر ما هي ظرفية واستراتيجية.
وهذا المعطى لا يخص السياق المغربي وحده، بل هو سمة للأنظمة التي تعيش مراحل انتقال سياسي غير مكتمل.
لا يمكن فهم تموضعات الفاعلين السياسيين في المغرب دون استحضار شرط الانتقال الديمقراطي كإطار مرجعي. فالخطأ المنهجي يكمن في التعامل مع الواقع السياسي كأنه يعيش في ظل ديمقراطية مستقرة، بينما سماته الأساسية تُظهر بنية متحركة، يختلط فيها الصراع المؤسساتي بالصراع الرمزي، وتتصارع داخلها مرجعيات متباينة بين منطق الدولة العميقة ومنطق الإصلاح.
إن الموقف من رئيس الحكومة الحالي، بصفته فاعلاً رمزياً لمعادلة ما بعد 2016، يتجاوز الموقف من شخصه، ليرتبط بمنظور الحزب لوضعية مؤسساتية يعتبر أنها تشكلت بفعل توازن غير ديمقراطي، وهو ما يُنتج مواقف تبدو للوهلة الأولى متوترة، لكنها في العمق منسجمة مع تصور مبدئي لتحول النظام السياسي.
لا يمكن قراءة القرارات السياسية من خلال منظار النفسيات أو عبر تأويلات أخلاقوية.
فالمشهد السياسي المغربي، بكل ما يحمله من توترات وإعادة تموقعات، يحكمه منطق معقد يستلزم أدوات تحليلية تراعي جدلية السلطة والمعارضة، وتغير مواقع الفاعلين، وسياقات إنتاج القرار.
فما يبدو سلوكاً شخصياً في الظاهر، غالباً ما يخفي خلفه بنية من التقديرات الاستراتيجية المرتبطة بتغير موازين القوى.
وهذا ما يجعل من الفعل السياسي في المغرب مجالاً لتحليل المتغير، لا لتصنيف المواقف في ثنائيات جاهزة.