بات المشهد السياسي المغربي يطرح على المراقبين سؤالاً مؤرقاً: هل نشهد بداية نهاية الأحزاب التقليدية؟ أم أننا أمام تحوّل أعمق، عنوانه تآكل السياسة نفسها باعتبارها مجالاً للصراع الفكري والاجتماعي؟
الأحزاب التي شكلت، لعقود، أدوات مركزية في بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، أصبحت اليوم كيانات باهتة تبحث عن تموقع ظرفي أكثر مما تدافع عن مشروع مجتمعي. من حزب الاستقلال الذي فقد دوره كرافعة للمحافظة الاجتماعية الوطنية، إلى الاتحاد الاشتراكي الذي ابتلعته البيروقراطية والمساومات الحكومية، وصولاً إلى الحركة الشعبية التي تحوّلت إلى امتداد إداري بلا مضمون، يبدو أن ما تبقى من هذه التنظيمات هو الأسماء والرموز، لا الأدوار ولا الجاذبية.
انتخابات 2021 كانت لحظة كاشفة. النتائج لم تُسقط فقط حزب العدالة والتنمية سقوطاً مدوياً، بل كشفت أيضاً عن هشاشة الجسم الحزبي ككل، حتى في صيغته الليبرالية الجديدة التي مثلها التجمع الوطني للأحرار. فالصعود الصاروخي لهذا الأخير، بقيادة عزيز أخنوش، لم يكن نتيجة تعبئة حزبية تقليدية، بل حملة تسويقية مكثفة تركزت حول صورة “رجل الأعمال الناجح” ووعود تقنية بتنزيل النموذج التنموي. النتيجة أن الناخب المغربي لم يُمنح فرصة للاختيار بين مشاريع سياسية متباينة، بل بين أنماط مختلفة من التسويق.
في هذا الفراغ، صعد خطابان متناقضان شكلياً، لكنهما يشتركان في ضرب السياسة من جذورها: من جهة، الخطاب الشعبوي الذي يختزل كل مشاكل البلاد في فساد النخب وتآمر “السياسيين”، ويقدم الحلول في شكل وعود بسيطة، ومن جهة أخرى، خطاب الفردانية التقنية الذي يروّج لفكرة أن الكفاءة تحل محل التمثيلية، وأن تدبير الشأن العام يجب أن يُعهد لخبراء لا لمناضلين. المفارقة أن الخطابين معاً يُجهزان على السياسة كفعل جماعي يتأسس على النقاش والمحاسبة والاختلاف.
الوجوه التقنية تملأ اليوم الوزارات، والبرلمان يعج بأشخاص لا يعرفهم أحد قبل الانتخابات، والمناضلون التقليديون تراجعوا إلى هوامش القرار أو استُبدلوا بمسيرين إداريين داخل الأحزاب نفسها. حتى النخب الشابة التي كانت تأمل في تجديد الدماء السياسية، وجدت نفسها أمام جدار سميك من التكلس الحزبي والزبونية.
الخطير في الأمر ليس فقط موت السياسة الكلاسيكية، بل غياب أي بديل حقيقي. فإذا كانت الأحزاب قد فقدت وظيفتها التأطيرية والاقتراحية، فإن البدائل المطروحة إما خطاب عاطفي غير مؤسسي، أو تكنوقراطية بلا شرعية شعبية. وفي الحالتين، نحن أمام فراغ سياسي يمهد إما لهيمنة الدولة على كل ما هو عمومي، أو لتفكك تدريجي للثقة في المؤسسات.
السيناريوهات المحتملة عديدة، لكن أخطرها هو استمرار الوضع الحالي: مشهد سياسي مُسيّر لا مُختار، بلا معارضة حقيقية ولا دينامية مجتمعية حية، حيث تتحول السياسة إلى مجرد تسيير تقني لملفات اجتماعية، وتُترك الهوامش للغضب الشعبي أو الإحباط الصامت. سيناريو آخر قد ينبثق من هذا الركود، وهو تجدد سياسي من القاعدة، عبر بروز حركات اجتماعية أو جهوية تفرض طرحاً جديداً، لكنه سيصطدم حتماً بمنظومة مقاومة لأي تغيير جوهري.
بين الركود والانفجار، لا يبدو أن المشهد السياسي المغربي قادر على الاستمرار في تجاهل سؤال التمثيلية. فالمجتمع الذي لا يجد من يتحدث باسمه، سيجد عاجلاً أو آجلاً طريقه ليفرض صوته، سواء عبر صناديق فارغة أو عبر الشارع.