حين تغرق الأخلاق في سيل المشاهدات: عن هوس التصوير الذي شوه الصحافة

مراقب سياسي14 دجنبر 2025
حين تغرق الأخلاق في سيل المشاهدات: عن هوس التصوير الذي شوه الصحافة

في لحظة واحدة، حين تغرق الأخلاق في سيل المشاهدات، تحوّل المشهد إلى ما يشبه لوحة من العبث الإنساني: امرأة تصرخ وسط مياه الفيضانات في مدينة آسفي، متشبثة ببقايا جدار يوشك أن ينهار، بينما يقف “الصحفي” – أو من يرتدي عباءته – على الضفة المقابلة ممسكًا بهاتفه، يصوّر، يعلّق، يطلب من مشاهديه أن “يتصلوا بالسلطات لإنقاذها”، ثم يواصل البث المباشر بكل هدوء، وكأن ما يصوّره فيلم وثائقي لا حياة فيه ولا موت.

في تلك اللحظة بالذات، بدت الصحافة وكأنها فقدت روحها. وما حدث لم يكن استثناءً، بل عرضًا لحالة أعمق من الانهيار القيمي الذي تشهده الممارسة الصحفية في زمنٍ صار فيه “السبق” يعني أن تكون أول من يصوّر، لا أول من يتحرك.

من الصحافة إلى “الفرجة”

قبل عقدين فقط، كانت الصحافة تُدرّس على أنها عمل مهني نابع من رسالة ومسؤولية. كان الحديث عن أخلاقيات المهنة جزءًا لا يتجزأ من تكوين الصحفي. أما اليوم، فقد غزت الميدان جيوش من حاملي الهواتف والكاميرات، يطلقون على أنفسهم “صحفيين ميدانيين”، دون تكوين، ولا ميثاق، ولا إدراك لطبيعة ما يفعلون.

إنهم أبناء عصر “البث المباشر”، حيث تتحوّل المأساة إلى محتوى، والموت إلى مادة دسمة للفرجة. وكلما اشتدّ الألم، ارتفع عدد المشاهدات.

في الظاهر، هؤلاء يدمجون بين الإعلام والمواطنة الرقمية، لكن ما يمارسونه في العمق ليس سوى ابتذال للمهنة. فهم لا يوثقون الحدث باعتباره واقعة اجتماعية أو سياسية تستحق التحليل والتفسير، بل باعتباره مشهدًا دراميًا يمكن أن يجلب ملايين التفاعلات.

إنها “ثقافة الاستعراض” التي زحفت من العالم الافتراضي إلى الميدان الصحفي، لتقلب القيم رأسًا على عقب: التضامن أصبح ضعفًا، والمساعدة تأخذ من “جمالية الصورة”، أما اللامبالاة، فتوصف بـ “الاحتراف”.

السبق أم المساعدة؟

في قواعد المهنة، لا شيء يمنع الصحفي من التوثيق، شرط ألا يكون ذلك على حساب الواجب الإنساني. حين تتعرض حياة إنسان للخطر، فإن أول ما يُطلب من أي إنسان هو المساعدة. لكننا اليوم نعيش مفارقة غريبة: يُفضل بعضهم أن يبقى “الشاهد” بدل أن يكون “الفاعل”.

الصحفي الجديد، كما يظهر في كثير من المنصات، يتعامل مع المأساة كأنها مادة استهلاكية. هو يقيّمها بعدد المشاهدات، وبقدرتها على إثارة الجدل لا الوجدان. يقترب بالكاميرا من الضحية أكثر مما يقترب بقلبه، ويبحث في المأساة عن زاوية أفضل للتصوير، لا عن وسيلة للنجدة.

وبعيدًا عن المثال الصادم في آسفي – حيث اختار المصور أن يطلب المساعدة عبر الفيديو بدل أن يقدّمها – هناك قصص مشابهة حدثت في حوادث سير، وحالات شجار، وانتحارات معلنة. أشخاص يتألمون، يحتضرون، يطلبون النجدة؛ وآخرون يلتقطون صورًا وفيديوهات، ويجرّبون الفلاتر، ويحمّلونها في دقائق.

أصبح الإنسان في لحظات ضعفه سلعة ضمن “اقتصاد الانتباه”، ومصدر ربح رمزي ومادي، وهذا ما يجعل خطورة الظاهرة تتجاوز حدود الصحافة إلى عمق الوجدان الجمعي.

التفكك القيمي في العصر الرقمي

التحول ليس مصادفة. فالمجتمع الرقمي أعاد تعريف القيمة: لم تعد الأخلاق معيارًا للاعتراف، بل الأرقام. لم يعد الصحفي يقاس بمهنيته ونزاهته، بل بعدد متابعيه ومشاهداته. وبكل أسف، انجرفت المؤسسات الإعلامية نفسها في هذا السباق، واقتنعت أن “البقاء في السوق” يعني مسايرة النمط الجماهيري، حتى وإن كان ذلك على حساب الرسالة.

ومن هنا، لم يعد غريبًا أن نرى بعض القنوات والمواقع تتسابق لعرض مقاطع مؤلمة دون أدنى احترام لكرامة الضحايا، أو أن تُشهر الكاميرات في وجوه المنكوبين وهم في حالة ضعف. وبدلًا من أن تكون الصورة وسيلة للتوعية، أصبحت وسيلة لخلق الإثارة.

كل ذلك يعكس أزمة أعمق: غياب التربية الإعلامية، وضمور الحس المهني، وانكسار الوعي الأخلاقي الذي كان يميز الصحفي الحقيقي عن صانع المحتوى.

الخلط الخطير بين الصحفي وصانع المحتوى

يُبرر البعض هذا الانفلات بعبارة سهلة: “نحن في عصر الجميع صحفي”. لكنها عبارة خطيرة، لأن الصحافة ليست مجرد نقل خبر أو تصوير مشهد؛ إنها مسؤولية مجتمعية تتطلب ثقافة قانونية وأخلاقية، وقدرة على التمييز بين النشر المسؤول والمحتوى التجاري.

صانع المحتوى يمكن أن يسعى إلى الجدل، أما الصحفي فعليه أن يسعى إلى الحقيقة. الأول يهمه التفاعل، والثاني تهمه المصداقية. الأول مؤثر لحظي، والثاني شاهد على التاريخ.

لكن المعضلة اليوم تكمن في أن الحدود بين الاثنين ذابت. فحتى بعض الصحفيين المحترفين صاروا يتصرفون كـ “يوتيوبرز”، يلهثون وراء المشاهدات، ويحسبون كل تغطية بمقدار ما تحققه من رواج في الشبكات.

والأسوأ حين تتحول هذه الممارسات إلى نمط سلوكي يرسّخ لدى الجمهور أن الصحافة مجرد عرض بصري، لا عمل فكري. في تلك اللحظة، يفقد الإعلام دوره الرقابي والتنويري، ويتحوّل إلى أداة ترفيه وتشويق، بل إلى تجارة بالعواطف.

الأخلاق… قبل العناوين

في حادثة آسفي، كان يمكن للمصور أن يتصرف ببساطة: أن يضع هاتفه في مكان آمن، يتصل مباشرة بالوقاية المدنية، أو يحاول مد يد المساعدة بأمانه الشخصي. لكنه اختار البقاء “داخل الصورة”، لأنه يدرك أن ما يصنع “الترند” ليس الفعل، بل المشهد.

هذه المفارقة تختصر التحوّل الكبير في علاقة الصحفي بنفسه ودوره. فعوض أن يكون شاهدًا على الحقيقة، أصبح شاهدًا على الألم من خلف الشاشة، متحكمًا في زواياه، ومحررًا في بثّه المباشر.

أين ذهبت الأخلاقيات؟

لأن الأخلاق، ببساطة، صارت عبئًا في سوق السرعة. فالمهني المتأنّي لا يجد مكانًا وسط من يركضون لخطف اللقطة الأولى. ولأن القيم لا تُدرّس اليوم في منصات التواصل، تضيع تدريجيًا من الوعي الجمعي، حتى بين من يدّعون الصحافة. وهكذا ظهرت جيوش من “المصورين الحريصين على المشاهدات”، بينما تغيب عنهم فكرة أن الصحافة، قبل أن تكون كاميرا، هي ضمير.

مسؤولية التعليم والمؤسسات الإعلامية

لا يمكن تحميل الأفراد وحدهم مسؤولية هذا الاختلال. فغياب التكوين الجاد، وضعف الرقابة المهنية، وتراجع سلطات النقابات والمجالس المختصة، كلها عوامل سمحت بتشويش الصورة العامة عن الصحافة.

عدد كبير من الشباب يقتحم الميدان بدافع الشغف، لكنه يجد نفسه أمام بيئة إعلامية تكرّس منطق الربح والسرعة. الجامعات تدرّب على التقنيات، لكنها نادرًا ما تغرس القيم. الإعلام الرسمي ينشغل بالشكليات في حين أن الجوهر يضعف يومًا بعد يوم.

الحل لن يأتي إلا بإعادة إحياء أخلاقيات المهنة كمبدأ جامع، لا كشعار. لا بد من فرض معايير واضحة للتصوير الميداني، وتجريم توثيق اللحظات الإنسانية الحساسة دون إذن أو قصد نبيل. كما يجب إعادة توعية الصحفيين الجدد بمفهوم “المسافة الأخلاقية” مع الحدث: أن ترى، ولكن دون أن تنتهك، أن توثق دون أن تُهين، أن تروي دون أن تُجرّد الإنسان من كرامته.

الصحافة في مواجهة الذكاء الاصطناعي وزمن الصورة

التحولات التكنولوجية تزيد الوضع تعقيدًا. فاليوم يمكن الذكاء الاصطناعي من تعديل الصور، وتركيب المشاهد، ومحاكاة الأحداث، ما يجعل الحاجة إلى الصحفي النزيه أكثر من أي وقت مضى. في عالم تزيفه الخوارزميات، لا تنقذ الحقيقة سوى الأخلاق والمهنية.

لكن كيف يمكن للصحفي أن يصمد إذا كان هو نفسه يبحث عن الوجاهة الإلكترونية بدل المصداقية؟

إن الصحافة التي نعرفها مهددة لا بالذكاء الاصطناعي فقط، بل بالبلادة الإنسانية. حين تصبح الكارثة وسيلة للتفاعل، يفقد الإنسان حسه بالتعاطف، ويتحول الألم إلى “محتوى”. وهذه أخطر أنواع الانحدار، لأنها تقتل الضمير ببطء.

ثقافة الاستعراض تسجن الضمير

الهوس بالتفاعل خلق نمطًا نفسيًا جديدًا لدى “المراسلين الجدد”؛ فهم يشعرون بالوجود حين يشاهدهم الآخرون. وحتى في لحظات الخطر، بحثهم الأول ليس عن الحل، بل عن المتابعين الجدد، وعن العنوان الذي يجذب الانتباه.

ولأن السوق الرقمية تكافئ السلوك المثير، صاروا أكثر استعدادًا للعب دور المصور المندهش، لا المواطن الفاعل. وبهذا المعنى، فإن الصحافة تحوّلت إلى مرآة لمجتمع مهووس بالفرجة، لا بالحقيقة.

إن هذا الانقلاب لا يهدد المهنة فقط، بل يشوه الوعي الجمعي، لأن الإعلام ليس مجرد مرسل للمعلومة، بل صانع للوجدان العام. وإذا انحدر وجدان الصحفي، انحدر وعي الجمهور تبعًا له.

بين الكاميرا والضمير

هناك جملة بديهية لكنها عميقة: الإنسان قبل اللقطة. هذه ليست نصيحة عاطفية، بل قاعدة مهنية. الصحفي، حين يكون أمام حياة مهددة، عليه أن يختار: إما أن يواصل تصوير المأساة، أو أن يكون إنسانًا فينقذها.

ليست الكاميرا امتدادًا للضمير، بل أحيانًا هي خصم له. فالتصوير يمنحك مسافة بينك وبين الحدث، يُشعرك أنك مراقب، لا مشارك. لكن الضمير المهني يحطم هذه المسافة، ويدفعك للتصرف بما يليق بإنسان يرى إنسانًا في خطر.

في المقابل، لا ننكر أن التوثيق مهم، وأن الصورة تلعب دورًا محوريًا في فضح الإهمال والكوارث. لكن التوثيق يجب أن يكون وسيلة لا غاية. الصورة التي تحمي الحقيقة لا تقتل الكرامة. أما الصورة التي تلهث خلف “الترند”، فهي جريمة ناعمة مغلفة بالاحتراف الزائف.

استعادة شرف المهنة

الصحافة ليست مهنة كغيرها؛ إنها عقد أخلاقي مع المجتمع. من يشتغل فيها يملك سلطة الرؤية والكلمة، وهاتان السلطتان إن استُخدمتا بغير وعي، تتحولان إلى عنف رمزي خطير.

وإعادة الاعتبار لهذا العقد يتطلب شجاعة مهنية، واستنهاضًا للرقابة الذاتية والتضامن المهني ضد الانحدار. فكما يُحاسَب الطبيب إن أساء إلى إنسانيته، يجب أن يُحاسَب الصحفي الذي يتاجر في الألم البشري باسم “التغطية”.

نحتاج إلى ميثاق جديد يتماشى مع زمن الصورة، يعيد تعريف حدود الممارسة الأخلاقية في الواقع الرقمي. ميثاق يذكّر الجميع بأن الصحافة لا تُقاس بعدد الإعجابات، بل بقدرة الكلمة والصورة على صون الكرامة، والدفاع عن الإنسان.

الكاميرا التي تحتاج إلى قلب

لقد علمتنا الكوارث أن الصورة أقوى من الكلام، لكننا نسينا أن الكاميرا بلا قلب لا تُنقذ الأرواح. في فيضانات آسفي وغيرها من المشاهد المؤلمة، لا نحتاج إلى مزيد من المصورين، بل إلى مزيد من البشر.

وإلى أن نفهم أن “الخبر” ليس مادة للاستهلاك، بل حياة معلّقة بين العدسة والضمير، ستظل الصحافة تائهة بين مهنيتها وإنسانيتها. فالمأساة ليست في الماء الذي أغرق الضحية، بل في الجفاف الذي أصاب قلوب من صوّروها.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.