لم يعد سؤال الإصلاح في المغرب سؤالًا سياسيًا بالمعنى التقليدي. بل تحوّل إلى إشكال ثقافي وسوسيولوجي عميق: من هم الفاعلون القادرون على حمل التغيير؟ فالمفارقة اليوم لا تكمن في غياب مشاريع الإصلاح أو في ندرة الخطابات الداعية إليه. بل في غياب الذات الجماعية القادرة على تحويل الأفكار إلى قوة اجتماعية فاعلة.
فقد امتلأ الفضاء العمومي، خلال العقود الأخيرة، بمفردات الإصلاح: الحكامة، التنمية، العدالة الاجتماعية، الدولة الاجتماعية، النموذج التنموي… غير أن هذا التضخم اللغوي لم يقابله تشكّل فاعلين اجتماعيين يمتلكون الشرعية الرمزية والتنظيمية للدفاع عن هذه المفاهيم أو ترجمتها إلى واقع ملموس. وهنا بالضبط يتبدّى جوهر الأزمة.
تفكك الفاعل الاجتماعي
في التحليل السوسيولوجي، لا يحدث التغيير بفعل النوايا أو السياسات وحدها. بل بوجود فاعلين اجتماعيين منظمين: أحزاب حاملة لمشاريع، نقابات ذات امتداد اجتماعي، طبقة وسطى واعية بدورها التاريخي. ومجتمع مدني مستقل قادر على الضغط والتراكم. غير أن هذه العناصر، في الحالة المغربية، تعاني من تفكك داخلي وفقدان للوظيفة التاريخية.
الأحزاب السياسية، على سبيل المثال، لم تعد تُنتج نخبًا أو رؤى بقدر ما تُعيد إنتاج نفس الوجوه والخطابات، في انفصال شبه تام عن التحولات الاجتماعية العميقة. أما النقابات، فقد تآكل رصيدها الرمزي بفعل البيروقراطية والانقسامات، فتحوّل حضورها إلى طقس موسمي أكثر منه قوة اقتراح أو تفاوض فعلي.
المجتمع كمتفرج
والأخطر من ضعف المؤسسات الوسيطة هو تحول المجتمع نفسه إلى متفرج. ففئات واسعة من المواطنين لم تعد ترى نفسها طرفًا في معادلة التغيير، بل مجرد موضوع للتدبير أو ضحية لإكراهات لا تملك تجاهها سوى التكيف. هذا التحول لا يمكن فهمه خارج منطق طويل من تطبيع اللامشاركة، حيث يُنظر إلى السياسة باعتبارها شأنًا منفصلًا عن الحياة اليومية، أو مجالًا مغلقًا لا يُجدي الانخراط فيه.
سوسيولوجيًا، نحن أمام ما يمكن تسميته بـالانسحاب الصامت: لا احتجاج واسع، ولا انخراط فعلي، بل نوع من التعايش الحذر مع الاختلالات. وهذا الانسحاب لا يعكس بالضرورة رضا اجتماعيًا، بقدر ما يعكس فقدان الثقة في جدوى الفعل الجماعي.
الإصلاح كخطاب بلا حوامل اجتماعية
في هذا السياق، يصبح الإصلاح خطابًا بلا حوامل اجتماعية. فالدولة تُنتج برامج، والنخب تُنتج تقارير، لكن الحلقة المفقودة هي تلك القوة القادرة على تحويل الإصلاح إلى مطلب اجتماعي ضاغط. الإصلاح، حين يُفصل عن المجتمع، يتحول إلى مسار تقني، تُقاس نتائجه بالأرقام لا بالتحولات البنيوية في علاقات السلطة والفرص.
من منظور ثقافي، يمكن القول إننا نعيش أزمة الخيال الجماعي: لم يعد هناك تصور مشترك لما ينبغي أن يكون عليه المستقبل، ولا سردية جامعة تُقنع الأفراد بأن التغيير ممكن ومشترك. كل فئة منشغلة بتدبير نجاتها الخاصة، في ظل اقتصاد هش ومجال اجتماعي غير متكافئ.
من يملك القدرة على التغيير؟
الجواب السوسيولوجي الصعب هو: لا أحد يملكها وحده. التغيير لا تصنعه الدولة منفردة، ولا النخب المعزولة، ولا الاحتجاج العفوي. إنه نتاج تفاعل معقد بين بنى اجتماعية حية، وفاعلين يمتلكون الوعي والتنظيم والقدرة على الاستمرار.
غير أن استعادة هذه القدرة تمر أولًا عبر إعادة الاعتبار للفعل الجماعي، وإعادة بناء الوسائط الاجتماعية. وتحرير السياسة من صورتها النفعية الضيقة. فبدون مجتمع يرى نفسه فاعلًا، سيظل الإصلاح وعدًا مؤجلًا، يعاد تدويره بأسماء مختلفة، بينما تستمر البنية العميقة للأزمة على حالها.
الإصلاح بلا فاعلين يشبه نصًا بلا قرّاء: مكتمل من حيث الشكل، لكنه بلا أثر. والسؤال الحقيقي اليوم ليس ماذا نصلح، بل من سيتحمل كلفة الإصلاح ومعناه وصراعه؟ فالتغيير، في جوهره، ليس قرارًا إداريًا، بل فعل اجتماعي يتطلب ذوات تؤمن بأن لها مكانًا في التاريخ.
















