المغرب وكأس إفريقيا للأمم: موعد مع التاريخ وصناعة المستقبل

مراقب سياسي22 دجنبر 2025
المغرب وكأس إفريقيا للأمم: موعد مع التاريخ وصناعة المستقبل

لم يكن إعلان الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (الكاف) عن اختيار المغرب لتنظيم كأس إفريقيا للأمم حدثاً عادياً في سجل الرياضة القارية. بل لحظة رمزية تختزل تحولات عميقة تشهدها المملكة في علاقتها بالرياضة، والتنمية، والدبلوماسية الإقليمية. فبعد عقود طويلة من آخر تنظيم مغربي للبطولة في سنة 1988، تعود الكرة الإفريقية إلى أرض المغرب وسط توقعات كبيرة ورهانات استراتيجية متعددة.

لكن ما الذي يمكن أن يجنيه المغرب فعلياً من هذا التنظيم؟ وهل ستكون كأس إفريقيا مجرد عرس رياضي عابر، أم فرصة تاريخية لتسريع التنمية وتثبيت المكانة الجيوسياسية للمملكة في إفريقيا والعالم؟

أولاً: بنى تحتية ترسخ التنمية لا حدثاً عابراً

من أبرز المكاسب المنتظرة من تنظيم كأس إفريقيا تحديث شامل للبنيات التحتية الرياضية والمدنية. فالمغرب، من طنجة شمالاً إلى مراكش جنوباً، يشهد طفرة عمرانية ورياضية ملموسة: ملاعب تجدد وتبنى وفق معايير الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، شبكات طرق ومواصلات Dعاد صياغتها لتسهيل تنقل الجماهير، ومطارات تطوّر لاستقبال مئات الآلاف من الزوار.

هذا الحراك لا يقاس بحسابات البطولة فقط، بل بقدرته على خلق دينامية اقتصادية محلية مستدامة. فمدن مثل وجدة، مكناس، وأكادير يمكن أن تتحول إلى مراكز جذب دائمة لأنشطة رياضية وسياحية مستقبلية: في حين ستستفيد الفنادق، والمطاعم، ووسائل النقل من رواج غير مسبوق يضخ أموالاً في الدورة الاقتصادية الوطنية.

والأهم أن هذه الاستثمارات، إن تم تدبيرها بعقلانية، لن تكون مؤقتة. فملاعب مثل “مركب طنجة الكبير” أو “الملعب الكبير بأكادير” يمكن أن تستغل لاحقاً في احتضان بطولات قارية وعالمية أو فعاليات اقتصادية وثقافية ضخمة، وهو ما يضمن استدامة العائد الاقتصادي والاجتماعي.

ثانياً: دفعة للسياحة وصورة المغرب في الإعلام الدولي

تعد كأس إفريقيا أكبر تظاهرة كروية في القارة، ومتابعتها تصل إلى مئات الملايين من المشاهدين عبر العالم. وعليه، فإن استضافة المغرب للبطولة ستكون أضخم حملة ترويج سياحي تلقائية تشهدها المملكة في تاريخها. مشاهد المدن المغربية، بثقافتها المتنوعة وكرم ضيافتها، ستُبث على مدار أسابيع إلى قارات مختلفة، لتخلق صورة جديدة عن المغرب: بلد الاستقرار، والانفتاح، والتنظيم المحكم.

ومن المتوقع أيضاً أن يرتفع عدد الزوار القادمين من دول إفريقية، لاسيما من بلدان جنوب الصحراء التي تشهد نمواً كبيراً في حركة السفر والسياحة. وهذا يعزز رهان المغرب على توسيع علاقاته الاقتصادية والإنسانية مع عمقه الإفريقي. فالمشجع الذي يزور الرباط أو فاس اليوم لمشاهدة منتخب بلاده، قد يعود بعد سنوات مستثمراً أو سائحاً أو طالباً جامعياً. إنها دبلوماسية ناعمة تمارس عبر الملعب لا عبر القنوات التقليدية.

كما أن البطولة فرصة لإبراز التنوع الثقافي المغربي أمام العالم: الثقافة الأمازيغية في سوس والأطلس، الطابع الأندلسي في فاس ومكناس، الطابع الإفريقي في الجنوب، والروح الحديثة لمدن الشمال. هذا التنوع، إذا عرض بشكل ذكي في الفعاليات والمهرجانات الموازية، سيعزز صورة المغرب كدولة تجمع بين الأصالة والتجديد.

ثالثاً: رافعة اجتماعية وشبابية لتجديد الثقة

لا يُمكن تجاهل البعد الاجتماعي في تنظيم حدث رياضي بهذا الحجم. فاستضافة كأس إفريقيا تُحفّز روح المشاركة والاعتزاز الوطني، وتُعيد الثقة للشباب المغربي في قدرات بلده التنظيمية. في زمنٍ تراجع فيه الإيمان الجماعي بالمؤسسات، تأتي البطولة لتمنح المغاربة، بمختلف فئاتهم، لحظة فخر جماعي واستعادة للثقة في الممكن الوطني.

ويخلق الحدث أيضا فرص شغل مؤقتة ودائمة، في قطاعات الحراسة والأمن الخاص، والإعلام، والفندقة، والنقل. وتُقدّر بعض الدراسات الأولية أن البطولة قد توفر ما بين 30 إلى 50 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، مما يسهم في تنشيط سوق الشغل، خصوصاً لفئة الشباب.

وعلاوة على ذلك، سيكون للبطولة أثر واضح على الجانب الثقافي والسوسيولوجي، إذ ستتحول إلى مناسبة لتعزيز قيم التعايش والانفتاح، خصوصاً مع توافد جماهير من مختلف الأديان والأعراق. مثل هذه التظاهرات تخلق تفاعلاً إنسانياً عميقاً يصعب قياسه بالأرقام، لكنه يثري التجربة المجتمعية المغربية في الانفتاح على العالم.

رابعاً: مكسب دبلوماسي واستراتيجي

لا يخفى أن الرياضة، في العصر الحديث، أصبحت أداة فعالة في السياسة الخارجية وبناء الصورة الدولية. فالمغرب الذي اختار منذ عقدين استراتيجية إفريقيا جنوب الصحراء كخيار دبلوماسي واقتصادي أساسي، يجد في هذه البطولة فرصة لتثبيت موقعه كفاعل محوري في القارة.

فاستقبال وفود رسمية، ورياضيين، وإعلاميين من أكثر من عشرين دولة إفريقية، يعني خلق شبكة علاقات جديدة تمتد من الرياضة إلى الاقتصاد والسياسة. ستمثل البطولة أيضاً فسحة دبلوماسية لتذكير القارة بالدور الريادي للمغرب في دعم الاتحاد الإفريقي، والاستثمار في الطاقة والبنيات التحتية والتكوين. إنها لحظة إبراز القيادة الهادئة عبر الفعل الرياضي المنظم لا عبر الخطاب السياسي.

هذا البعد الاستراتيجي يزداد أهمية بعد فوز المغرب بتنظيم كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال. تنظيم كأس إفريقيا 2025 سيكون تمريناً عملياً لتجريب اللوجستيك، والأمن، والاتصال الجماهيري، والتدبير الرياضية، بما يؤسس لاستحقاق أكبر وأعقد بعد خمس سنوات فقط.

خامساً: الأثر الإعلامي والاتصالي

يُنتظر أن تشهد التغطية الإعلامية للبطولة انفجاراً في المحتوى الرياضي المغربي، من بث تلفزي مباشر إلى إنتاج وثائقيات وتقارير وقصص بشرية. ستكون المناسبة فرصة لتطوير المهنة الصحفية الرياضية داخلياً، والتنافس على إنتاج مضامين تليق بالمستوى القاري.

كما أن الإعلام الوطني سيجد نفسه أمام اختبار الانفتاح الثقافي واللغوي، حيث سيتواصل مع جمهور إفريقي متنوع لغوياً وثقافياً. وهذا ما سيحفّز المؤسسات الإعلامية المغربية على تطوير خطط للتواصل بلغات متعددة، بما يعزز حضورها في السوق الإفريقية الناشئة للمحتوى الرياضي.

ومن جانب آخر، ستستفيد الصحافة الدولية من تجربة المغرب في التنظيم لتسليط الضوء على نجاحاته التنموية والسياسية، وهو ما سيشكل توازناً ناعماً أمام الصورة النمطية التي لطالما ارتبطت بإفريقيا كقارة أزمات.

الرأي المخالف: كلفة الفرص المهدورة

ومع ذلك، لا يبدو التوافق مطلقاً حول الصورة الوردية لهذا الحدث. فهناك من يرى أن تنظيم بطولة بهذا الحجم قد يحمل في طياته مخاطر مالية تلتهم ميزانيات ضخمة دون مردودية حقيقية. إذ ينتقد البعض ما يعتبرونه “تفضيلاً للبريق الرياضي على حساب الأولويات الاجتماعية”، خصوصاً في ظل التحديات التي يعيشها قطاع التعليم والصحة والتشغيل.

وتشير تجارب إفريقية سابقة، مثل جنوب إفريقيا في 2010 أو الغابون في 2017، إلى أن كثيراً من الملاعب التي صرفت عليها ميزانيات ضخمة تحولت لاحقاً إلى بنايات مهجورة دون استغلال دائم. لذلك يخشى المنتقدون من أن يسقط المغرب في فخّ البنية التحتية غير المستدامة، إذا لم تدمج هذه المنشآت ضمن رؤية قطاعية متعددة الاستخدامات.

وكذلك، هناك من يرى أن الارتباط النفسي المفرط بالرياضة يخفي إخفاقات السياسة العامة خلف أحلام الكرة. وغالباً ما تستعمل مثل هذه المناسبات لتمرير رسائل سياسية حول “النجاح الوطني” رغم وجود أزمات اجتماعية قائمة. وبالتالي يدعو هذا الرأي إلى التعامل الواقعي مع الحدث: الاعتراف بما يحققه من إشعاع، دون تحويله إلى غطاء دعائي للحكومة أو إنجاز سياسي غير متكامل.

قراءة متوازنة: بين الرؤية الواقعية والطموح الوطني

في ميزان التحليل الموضوعي، تبدو البطولة فرصة حقيقية لا يجب أن تضيعها المملكة. نجاح التنظيم لن يكون مجرد فوز لسمعة المغرب فحسب. بل دليلاً على انتقال الدولة من منطق “المشاريع المؤقتة” إلى منطق “الاستثمار الاستراتيجي في المستقبل”.

كل المعطيات تشير إلى أن المغرب يمتلك حالياً بيئة مؤسساتية وتقنية أكثر نضجاً مما كانت عليه قبل عقود، بفضل تراكم الخبرات في مجالات الأمن، النقل، والتكنولوجيا. كما أن وعي الرأي العام بدوره في الرقابة والتقييم يشكّل ضمانة للشفافية والمساءلة في تنفيذ المشاريع المتعلقة بالبطولة.

وإذا نجح المغرب في ربط الحدث بإصلاحات أوسع — مثل تطوير الرياضة المدرسية، وتحفيز المقاولات المحلية على الاستثمار في مجال الخدمات الرياضية، واستغلال الملاعب كمراكز مجتمعية دائمة — فستتحول كأس إفريقيا من مجرد بطولة إلى نقطة تحول في الاقتصاد الوطني.

البطولة كاختبار لنموذج مغربي جديد

وفي النهاية، لا يتعلق تنظيم كأس إفريقيا 2025 بحدث رياضي فقط. بل بمشروع وطني متكامل يعكس طموح المغرب في الجمع بين التنمية والريادة الإقليمية. إنها مناسبة لاختبار قدرة الدولة على التخطيط والتنفيذ. وعلى تحويل المتعة الرياضية إلى استراتيجية تنموية تجمع بين الاستثمار، والهوية، والابتكار.

وسيكون الحكم الحقيقي على نجاح البطولة ليس في تنظيم المباريات أو جودة النقل التلفزي. بل في الإجابة على سؤال أبسط وأعمق: ماذا سيبقى بعد صافرة النهاية؟

إذا استطاع المغرب تحويل الحدث إلى انطلاقة جديدة للمشاريع المستدامة. وتكريس مفهوم “الرياضة كرافعة تنموية”. فإن كأس إفريقيا ستدخل التاريخ بوصفها لحظة وعي جماعي بتحول بلدٍ يملك طاقة التغيير ويجيد فن البناء.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.