اضطراب التوحد.. مفاهيم مغلوطة تساهم في تعميق مسافة إقصاء المصابين بالمرض

0

التوحد هو اضطراب نمائي عصبي معقد تظهر أعراضه في مرحلة الطفولة المبكرة. ويؤثر بشكل كبير على أسلوب التواصل والسلوك والتفاعل الاجتماعي لدى المصاب. ولا تزال العديد من المفاهيم المغلوطة تحيط بالموضوع في المغرب. مما يسهم في تعزيز الوصمة الاجتماعية وتحد من فرص دمج الأطفال المصابين بهذا الاضطراب في المجتمع.

وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أبرز هذه المفاهيم الخاطئة، وشرح حقيقة هذا الاضطراب من منظور علمي واجتماعي، مستعرضين الجهود المغربية في توعية المجتمع وتصحيح الأفكار المتداولة.

تعريف التوحد وطبيعته العلمية

اضطراب التوحد حالة نمائية عصبية تصيب الأطفال وتؤثر بدرجات متفاوتة على قدراتهم التفاعلية والاجتماعية. ولا يرتبط مطلقًا بخلل نفسي أو عقلي. فالمعايير العلمية الحديثة تعتبر هذا الاضطراب حالة دائمة ترافق الإنسان طوال حياته. وعلى عكس أمراض الطفولة المعدية أو المؤقتة، لا يختفي التوحد مع التقدم في العمر بل تتغير مظاهره واحتياجات المصابين به مع النضج.

مفاهيم مغلوطة حول أسباب التوحد

تشيع في المجتمع المغربي مجموعة من الأفكار المغلوطة بأن “اضطراب التوحد” أو “طيف التوحد” يحدث نتيجة سوء التربية أو تلقي الطفل للقاحات. وهذه الأفكار لا تستند إلى أي دليل علمي، إذ أثبتت الأبحاث أن التوحد مرتبط بأسباب وراثية وعوامل بيولوجية عصبية، وليس له علاقة بسلوكيات الوالدين أو بتلقي التطعيمات.

وتربط بعض الأسر، للأسف، بين غياب الحنان أو تعاطي أحد الوالدين للمخدرات أو الكحول وإصابة الطفل بالتوحد، بينما الدراسات الحديثة لم تثبت صحة هذه الادعاءات إلا في حالات جينية خاصة جدًا، وهي لا تمثل السبب الأول أو الأكثر شيوعًا.

التوحد ليس مرضًا نفسيًا أو عقليًا

كما يسود اعتقاد خاطئ بأن التوحد هو مرض نفسي يمكن علاجه بالأدوية أو جلسات التأهيل النفسي الخاضعة لنفس بروتوكولات علاج الاكتئاب أو الفصام. وهذا خطأ، لأن هذا الاضطراب حالة نمائية عصبية تطال تطور الدماغ، وتتطلب برامج تربوية وسلوكية خاصة لا علاجًا نفسيًا تقليديًا.

صورة نمطية عن المصابين بالتوحد

وتبرز في المجتمع المغربي فكرة أن جميع الأطفال المصابين بالتوحد إما عباقرة أو فاقدو الذكاء بشكل كامل. والحقيقة أن اضطراب التوحد يظهر في طيف واسع جداً، حيث يتمتع بعض المصابين بقدرات استثنائية في التحليل أو الحفظ أو الإبداع، بينما يعاني آخرون من صعوبات في مجالات تعليمية أو حياتية معينة. والكثير من الأطفال لديهم نسبة ذكاء طبيعية ويعيشون حياة مستقلة عندما يحصلون على الدعم المناسب.

التوحد والاندماج الاجتماعي

ويعتقد الكثيرون بأن المصابين بالتوحد يفضلون العزلة ويرفضون التفاعل بعمد. في حين أنه، غالبًا ما يواجه المصابون بالتوحد صعوبات في قراءة الإشارات الاجتماعية أو التعبير عن مشاعرهم بطرق نمطية. لكن هذا لا يعني افتقارهم للحنان أو عدم رغبتهم في الصداقة أو العلاقات البشرية.

وهو ما أدى بالأطفال المصابين بالتوحد في المغرب لمواجهة مستويات مرتفعة من الإقصاء والصمت. بسبب نقص الفهم والدعم داخل النظام التعليمي والأسري، وهو ما ينعكس في ضعف اندماجهم بالمجتمع.

برامج التأهيل ليست حكرًا على المراكز المتخصصة

كما ينتشر الاعتقاد بأن التدريب والتأهيل ممكن فقط عبر المراكز الخاصة، وأن الأسرة عاجزة عن تقديم أي دعم فعال لأبنائها المصابين بالتوحد. لكن هذه فكرة غير دقيقة؛ حيث يلعب الأهل دورًا محوريًا في تعليم وتدريب الطفل على المهارات الحياتية والاجتماعية، بناءً على توجيهات المدربين والأخصائيين.

حملات التوعية وجهود المجتمع المدني

وظهرت في السنوات الأخيرة بالمغرب عدد من الجمعيات المتخصصة والداعمة لأسر الأطفال المصابين بهذا الاضطراب. وتبذل جهودًا لنشر الوعي وتصحيح المفاهيم المغلوطة عبر ندوات وورشات عمل وحملات إعلامية. من بينها جمعية “آباء وأصدقاء الأطفال التوحديين” بمكناس، وجمعية “بسمة” بطنجة. وجمعية “بلسم” بالقنيطرة، وتحالف جمعيات التوحد بالمغرب. كما شنت حملات عبر الشاشات في وسائل النقل ومحطات القطار لتصحيح تلك المفاهيم وتعزيز فهم المجتمع لطبيعة الاضطراب.

وفي ظل استمرار غياب الدعم الحكومي الكافي، يقع الحمل الأكبر في تعليم الأطفال المصابين بهذا الطيف على المجتمع المدني والمبادرات الخاصة. فعلى الرغم من تزايد أعداد حالات التشخيص وحالات الإصابة الموثقة، هناك نقص حاد في مراكز التشخيص والبرامج التأهيلية خصوصًا خارج المدن الكبرى ومدن المركز على الخصوص.

أرقام ودراسات حول التوحد في المغرب

تشير الدراسات إلى أن عدد المصابين بهذا الاضطراب في المغرب قد يصل إلى حوالي 340 ألف شخص، ثلثهم من الأطفال. مع معدلات تشخيص منخفضة بسبب ضعف الوعي وغياب الخدمات المتخصصة في المدن الصغيرة والقرى. وتزيد، مع المعاناة الصامتة للأسر، الحاجة إلى إرساء سياسات عمومية تراعي واقعهم وتيسر لهم سبل العلاج والتعليم والإدماج الحقيقي.

حلول وتوصيات لتصحيح المفاهيم والحد من الوصمة

ولتجاوز المغالطات المنتشرة، لابد من:

  • تعزيز حملات التوعية بكافة الوسائل لفهم الأسباب الحقيقية للتوحد وأهمية الكشف المبكر.
  • تطوير منظومة الرعاية الصحية والتعليمية وخلق مراكز تشخيص وتأهيل في كل المدن المغربية. أو على الأقل مع المراكز الاستشفائية الجهوية والإقليمية.
  • دعم الأسر عبر برامج تدريبية وتقديم الخدمات العلاجية والتربوية بتكلفة منطقية.
  • إدماج الأطفال المصابين في المدارس مع توفير دعم خاص لهم.
  • تشجيع البحث العلمي لكشف الجوانب الجديدة للاضطراب وتطوير وسائل التشخيص والتأهيل.
  • الاستعانة بالجمعيات المدنية كفاعلين أساسيين في التحسيس والدعم الاجتماعي.

خلاصة

يبقى هذا الاضطراب تحديًا صحيًا واجتماعيًا مركبًا في المجتمع المغربي بفعل وجود جملة من المفاهيم المغلوطة. والتي تسهم في زيادة الوصمة والإقصاء. لكن بفضل جهود جمعيات المجتمع المدني، تزداد حملات التوعية وتظهر نتائج أكثر إيجابية في فهم طبيعته. كما تتوسع دائرة المطالبة بحقوق المصابين في التعليم والصحة والاندماج. ويبدأ المسار الصحيح بتصحيح المفاهيم، ويكتمل بتظافر جهود الأسر، والجمعيات، والإرادة الحكومية لدعم مستقبل أطفال المغرب من ذوي هذا الاضطراب.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد