في أعقاب التطور التكنولوجي الأخير الذي أجرته منصة “إكس”. طفت إلى سطح المشهد الرقمي خريطة جديدة تكشف هويات الفاعلين الأساسيين وراء حملات الحرب السيبرانية التي استهدفت المغرب في السنوات الفائتة. فنحن اليوم أمام تحول نوعي في القدرة على تتبع مصادر الهجمات وتفكيك شبكات التضليل وصناع المحتوى العدائي. مما يضع الرأي العام أمام معطيات لم يكن الوصول إليها ممكناً في السابق إلا بصعوبة.
بزوغ التقنية وانكشاف المستور
شكّل التحديث المتقدم لمنصة “إكس” منعطفاً محورياً في نمط التعامل مع الجرائم الرقمية. إذ وفّر للمرة الأولى أدلة تقنية دقيقة ترسم معالم العلاقات بين الحمولات الرقمية الموجهة ضد المغرب، والجهات التي تقف وراءها. البيانات الصادرة عن المنصة كشفت بوضوح أن الجزء الأكبر من الحسابات التي تنشط في بث الأكاذيب وحملات التحريض ضد المغرب تتم إدارتها بشكل مباشر من داخل الجزائر. وهو ما يؤشر على أن الموضوع أبعد من مجرد تصعيد إعلامي تقليدي ليصل إلى مستوى التنظيم الإلكتروني المنهجي.
هذه النتائج، المدعومة بتحليل تقني متقدم لمسارات الحسابات الرقمية ونقاط اتصالها وخوادمها، وضعت الجزائر في صدارة الدول المتورطة. بل إنها تُمارس ما يشبه “الحرب الناعمة” عبر الوسائط الجديدة، متخذة من العالم الافتراضي ساحة لمعركة مقصودة. لم يعد الأمر اليوم مقتصراً على الردع المعلوماتي أو التصريحات السياسية. بل تحوّل إلى واقع رقمي معقد، تتداخل فيه عناصر السياسة والأمن والمجتمع.
دور قطر: المساند الخفي
اللافت للانتباه أن التحقيقات الرقمية لم تقتصر على الجزائر وحدها. فقد تبيّن عبر البيانات ذاتها وجود دور فعّال لقطر في دعم هذه الشبكة. ليس فحسب من خلال الترويج المباشر، وإنما أيضاً عبر “غرف مظلمة” تُدار فيها الحملات بشكل سري. بما يؤكد وجود بنية تحتية إلكترونية متقدمة ومتشابكة تعمل على تضخيم التأثير وتكرار الرسائل العدائية عبر مختلف المنصات.
قطر، التي اعتادت الترويج لنفسها كوسيط إعلامي وداعم لحريات التعبير. تجد نفسها في موقع المساءلة الرقمية بعدما كشفت التقنيات الحديثة عن خيوط تواصلها الفعلي مع شبكات التحريض. حيث تم تتبع العشرات من الحسابات المدارة من الدوحة والتي تنشط في التنسيق والترويج لمضامين تقاطع مصالحها مع الجزائر. ما يعكس تعقيدات جيوسياسية جديدة في منطقة المغرب العربي، ويعيد طرح سؤال الدور القطري في القضايا الإقليمية.
شبكة المؤثرين المزيفين: من جيل زد إلى حسابات بأقنعة مغربية
التحقيق الرقمي الأحدث كشف أيضاً عن فئة جديدة من الفاعلين الرقميين: حسابات تدّعي تمثيل الشباب المغربي، خاصة فئة “جيل زد”. لكنها في الواقع تدار بالكامل من خارج حدود المغرب. إذ بلغ الأمر حد اكتشاف أن بعضها يدار من كندا. وتتكامل مع الجهد الجزائري والقطري، في صناعة محتوى خصيصاً لاستهداف فئات الشباب المغربي وبث الشكوك حول المسائل الوطنية والمؤسسات. هذا التكامل يعكس وعياً تقنياً بخطورة “الجيل الرقمي”. حيث يسعى صناع الحروب الرقمية إلى كسب معركة القلوب والعقول من خلال مخاطبة الفئة الشابة بلغتها وتوجهاتها.
خديعة المؤسسات الوهمية
ضمن الفضائح الرقمية المسجلة تَبَين أن الحساب المسمى بوزارة الشؤون الخارجية الصحراوية، ينطلق فعلياً من الأراضي الجزائرية نفسها. الحساب الذي طالما لعب على وتر الرواية الانفصالية واستدرار الدعم الخارجي، أضحى اليوم نموذجاً على ظاهرة “واجهة المؤسسة الوهمية” التي تستغل الثغرات الرقمية لتضليل الرأي العام العالمي حول القضية المغربية. وقد تفاعل معارضون جزائريون مع هذا الكشف بسخرية حادة، معتبرين أن اللعبة لم تعد تنطلي على أحد بعد معطيات منصة “إكس”.
أثر هذا الكشف على الوعي الأمني المغربي
توسّع نطاق الكشف التقني الأخير وضع المواطن المغربي أمام تحديات جديدة: لم تعد الحرب السيبرانية مسألة نظرية أو مجرد اتهامات متبادلة بين الدول. بل أصدرت هذه النتائج جرس إنذار للمجتمع المغربي ليبحث عن سبل رفع منسوب الوعي الرقمي، وتحصين الذات من التأثيرات الخارجية، خصوصاً أن الحملات الرقمية باتت تستهدف القضايا الراهنة والحساسة، مثل الوحدة الوطنية ونمط عيش الشباب ومستقبل البلد.
وتدعو معطيات الوضع الجديد إلى ضرورة تطوير الاستراتيجيات الوطنية للأمن السيبراني في المغرب، وتكثيف برامج التوعية خاصة في الأوساط التعليمية والإعلامية، بحيث يتحصن الجيل الجديد من الوقوع ضحية التضليل أو حملات التشكيك الممنهجة. فالحرب الرقمية اليوم لا تكتفي بنقل الشائعات، بل تصنع بيئة ملوثة بالمعلومات تزاحم الحقيقة وتزيفها في آن واحد.
التحديات أمام الدبلوماسية الرسمية والإعلام المستقل
إن كشف حجم التدخل الرقمي الخارجي أفرز تحدياً إضافياً للدبلوماسية المغربية التي صارت مطالبة بالتعامل مع أدلة ملموسة لا تترك مجالاً للمناورة. فالموقف الدولي اليوم، خاصة بعد ما قدمته منصة “إكس”، أضحى مطالباً بإعادة النظر في مزاعم “الحياد الإعلامي” لبعض الدول. ومراجعة علاقة المغرب مع كل الأطراف المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الحملات الرقمية المعادية.
وبالموازاة مع ذلك يبرز دور الإعلام المستقل في المغرب الذي أصبحت على عاتقه مسؤولية كبرى في تفسير هذه المعطيات للرأي العام. وعدم الوقوع في فخ الشحن العاطفي، بل مقاربة القضية بمنطق التحليل والاستناد للأدلة الرقمية الدقيقة. وعدم إغفال أن الحرب السيبرانية قد تتخذ أشكالاً جديدة ومتجددة كل فترة زمنية.
خلاصات ورهانات مستقبلية
قضية الكشف الرقمي الأخير لمنصة “إكس” ترسم مساراً جديداً لفهم مهددات الأمن الرقمي المغربي. وتنقل النقاش إلى مستوى يفرض ضرورة التجاوب المؤسساتي والشعبي مع خطر الحرب السيبرانية المركبة والمتطورة. لم يعد ممكناً الاكتفاء بالشعارات الوطنية أو البيانات التوضيحية في مواجهة خطر يتخفى داخل منصات التكنولوجيا. ويُسخّر الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات للوصول إلى الفئات الهشة من المجتمع.
التحدي أمام المغرب اليوم مزدوج: مواجهة التهديد الرقمي المتنوع والمنسق، والتحصن الاجتماعي بتعميق التفكير النقدي والثقة بالمؤسسات الوطنية. ذلك أن مستقبل السيادة والأمن لم يعد يقتصر فقط على الحدود الجغرافية، بل صار مرهوناً بقدرة المغاربة على إدارة معركتهم السيبرانية بثبات وذكاء… والتاريخ دائماً ما ينصف من يملك القدرة على قراءة الواقع ومواجهته دون مواربة أو زيف.















