الشفافية المعلّقة: حكومة تغرق في المؤسسات والقوانين… وتُبقي الفساد بعيداً عن قفص المحاسبة

مراقب سياسي12 دجنبر 2025
الشفافية المعلّقة: حكومة تغرق في المؤسسات.. وتُبقي الفساد بعيداً عن قفص المحاسبة

يبدو مسار محاربة الفساد في المغرب ظاهريا مزوّدا بكل ما يلزم من مؤسسات وقوانين، لكنه في الجوهر مسار متعثر تُعلَّق فيه الشفافية أكثر مما تُمارَس. المؤشرات الدولية والتقارير الوطنية تكشف فجوة مقلقة بين وفرة الآليات القانونية والهيئات الدستورية، وبين تواضع النتائج وتراجع ثقة المواطنين في جدية مكافحة الفساد.​

أرقام لا تُطمئن

في مؤشر إدراك الفساد لسنة 2024، حصل المغرب على 37 نقطة من 100، متراجعا عن 38 نقطة في 2023، واحتل المرتبة 99 من أصل 180 دولة، أي أدنى من المتوسط العالمي البالغ 43 نقطة. هذا التراجع يأتي بعد سنوات كان فيها المغرب قد بلغ 43 نقطة ومرتبة أفضل نسبيا سنة 2018، مما يعني أن الأداء في مجال النزاهة والشفافية يعرف مسارا تنازليا رغم تكاثر الخطابات الإصلاحية. منظمة “ترانسبارنسي المغرب” نبّهت في بلاغها حول نتائج 2024 إلى أن هذا التراجع يعكس استمرار اختلالات عميقة في ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضعف نفاذ القوانين وفعالية المؤسسات القائمة.​

منظومة مكافحة الفساد… هندسة معقّدة ونتائج محدودة

من الناحية الشكلية، يتوفر المغرب على ترسانة قانونية ومؤسساتية واسعة لمكافحة الفساد: تجريم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ في القانون الجنائي، المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، إنشاء هيئات مثل المجلس الأعلى للحسابات، رئاسة النيابة العامة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية. تقارير حكومية رسمية تفتخر بكون المغرب اعتمد استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد وأعدّ تقارير دورية عن “تعزيز النزاهة والشفافية”، إلى جانب قانون الحق في الحصول على المعلومات الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2019.​

ومع ذلك، تشير دراسات تقييمية إلى أن تعدد الفاعلين وغياب تنسيق عملي قوي بينهم، إضافة إلى ضعف الموارد البشرية والمالية لبعض الهيئات، يجعل هذه المنظومة أقرب إلى “مصفوفة قانونية” منها إلى آلة فعالة للمحاسبة. في كثير من الحالات، تبقى تقارير المؤسسات الرقابية حبرا على ورق، تُنشر سنويا دون أن تترجم بالسرعة الكافية إلى متابعات قضائية أو عقوبات رادعة، وهو ما يرصدُه مراقبون كأحد أبرز مظاهر “الشفافية المعلّقة”.​

تقارير المحاسبة… من النشر إلى الأثر

المجلس الأعلى للحسابات يُصدر بانتظام تقارير سنوية وتخصصية تكشف اختلالات تدبيرية ومالية في قطاعات متعددة، من الجماعات الترابية إلى المؤسسات العمومية والأحزاب السياسية. التقرير السنوي 2023–2024 أشار إلى خروقات وتجاوزات في تسيير المال العام لدى عدد من الفاعلين، بما في ذلك أحزاب سياسية لم تحترم قواعد مسك الحسابات أو تبرير النفقات العمومية التي حصلت عليها.​

ورغم أن المحاكم المالية أعلنت عن تحصيل مبالغ مهمة لصالح خزينة الدولة، وصلت وفق تقديرات صحفية إلى حوالي 139 مليون درهم في استرجاعات عن سنتي 2023 و2024، فإن هذا الرقم يبقى محدودا مقارنة بحجم الاقتصاد الوطني وحجم الصفقات العمومية سنويا. والأهم من ذلك أن جزءا من الرأي العام لا يرى في هذه الأخبار دليلا على “حزم الدولة”، بقدر ما يراها مجرد تصفية لملفات واضحة، بينما يستمر الإحساس بالإفلات من العقاب في قضايا أكبر أو أكثر حساسية سياسيا.​

مؤشر إدراك الفساد… تحذير متكرر

تقارير “ترانسبارنسي إنترناشيونال” و”ترانسبارنسي المغرب” تحذر منذ سنوات من أن المغرب يدور في حلقة مفرغة: نصوص ومؤسسات تعِد بمحاصرة الفساد، مقابل تدهور في الترتيب الدولي أو ركود في أحسن الأحوال. متوسط نقاط المغرب في مؤشر إدراك الفساد بين 2002 و2024 لم يتجاوز 36 نقطة، مع تسجيل أدنى مستوى (32 نقطة) في 2004 وأعلى مستوى (43 نقطة) في 2018، ما يعني أن التقدم كان ظرفيا ولم يتحول إلى مسار مستدام.​

وأشار مقال تحليلي حديث إلى أن تراجع المغرب إلى المرتبة 99 سنة 2024، رغم “الإصلاحات المؤسسية”، وهو ما يطرح سؤالا مُحرجا: هل المشكلة في القوانين نفسها، أم في الإرادة السياسية لتفعيلها بشكل متساوٍ على الجميع دون استثناء؟ الجواب الذي تميل إليه منظمات المجتمع المدني هو أن الانتقائية في المتابعة، وغموض مسارات بعض الملفات، وتسييس قضايا أخرى، كلها عوامل تُضعف أثر أي تطور قانوني أو مؤسساتي.​

ضرب دور المجتمع المدني… خطوة إلى الوراء

أحد التطورات الأكثر إثارة للجدل في 2024 كان مشروع القانون 03.23، الذي صادقت عليه الحكومة لتعديل قانون المسطرة الجنائية، بهدف منع الجمعيات من تحريك الشكايات المباشرة أمام القضاء في قضايا تتعلق بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك بمحكمة النقض. هذه الصيغة تُنهي عمليا إمكانية لجوء جمعيات حماية المال العام وجمعيات مكافحة الفساد إلى القضاء كطرف مدني مستقل عندما ترصد شبهة اختلاس أو تبديد أموال عمومية.​

واعتبرت مراكز بحث ومنظمات حقوقية هذا التوجه “نكسة” في مسار مكافحة الفساد، لأنه يُقصي شريكا كان فاعلا في كشف ملفات حساسة، مثل الملف الذي أدى إلى متابعة وزير سابق ورئيس جماعة الفقيه بن صالح محمد مبديع، والذي انطلق من شكاية لجمعية حماية المال العام. حسب هذه الجهات، فإن تقييد حق الجمعيات في رفع دعاوى يعاكس روح الدستور الذي ينص على مشاركة المجتمع المدني في تتبع السياسات العمومية ومساءلة الفاعلين، ويبعث برسالة سلبية حول أولوية حماية المال العام في سلم القرارات السياسية.​

هيئة النزاهة… صلاحيات على الورق

ومع أن التقارير السنوية للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتهاـ التي نُصّبت بصفتها مؤسسة دستورية بصلاحيات موسعة مقارنة باللجنة المركزية السابقة، مع مهام في تتبع تنفيذ الاستراتيجيات، وتلقي التصريحات، والتوعية، وإصدار آراء وتوصيات حول قضايا النزاهة، توثّق لاختلالات وأنماط فساد مؤسساتي، وتقترح تعديلات تشريعية وإجرائية في مجالات الصفقات العمومية وتضارب المصالح والشفافية الإدارية.​ فإنها حسب خبراء حقل النزاهة تفتقر إلى سلطات تحقيقية وقضائية مباشرة، إذ يظل دورها استشاريا ورقابيا، بينما تبقى سلطة المتابعة والجزاء بيد القضاء والنيابة العامة وأجهزة التفتيش القطاعية. هذا الفصل بين “التشخيص” و“العقاب” يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعليق التوصيات في الهواء، خاصة حين تصطدم بمصالح سياسية أو اقتصادية قوية.​

قوانين كثيرة… ثغرات أكثر

التقييمات القطاعية لقوانين مكافحة الفساد في المغرب تُظهر أن المنظومة القانونية تغطي نظريا معظم أشكال الفساد: الرشوة، الاختلاس، استغلال النفوذ، غسل الأموال، تضارب المصالح، وتمويل الأحزاب. لكن دراسات خبراء أشارت إلى عدة ثغرات: غموض في تعريف بعض الجرائم، صعوبات في إثباتها، محدودية حماية المبلغين عن الفساد، وتعقيدات في مساطر المتابعة خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسؤولين منتخبين أو سامين.​

إضافة إلى ذلك، تبرز إشكالية تضارب المصالح في واجهة النقاش، حيث شهدت السنوات الأخيرة جدلا حول حالات مسؤولين سياسيين يمتلكون شركات تستفيد من الصفقات العمومية أو من سياسات عمومية في قطاعات يشرفون عليها. رغم وجود مقتضيات دستورية وقانونية تمنع تضارب المصالح، يرى مراقبون أن آليات التصريح بالممتلكات، ومراقبة تداخل المال والسياسة، ما زالت ضعيفة وغير شفافة بما يكفي لردع استغلال المنصب لتحقيق مصالح خاصة.​

الشفافية المعلقة: الحق في المعلومة نموذجاً

إقرار قانون الحق في الحصول على المعلومات سنة 2018 كان يُفترض أن يشكل ثورة هادئة في علاقة المواطن بالإدارة، عبر تمكينه من الوصول إلى الوثائق والمعطيات العمومية إلا في حالات استثنائية محددة. لكن تقارير المتابعة تشير إلى أن تطبيق هذا القانون يواجه عراقيل عملية وثقافية: تأخر الإدارات في الرد، رفض غير معلل أحيانا، ضعف الوعي لدى المسؤولين والمواطنين معا بحق النفاذ إلى المعلومة، وغياب عقوبات رادعة للإدارات الممتنعة.​

وسجلت مراجعة مستقلة لخطة المغرب في إطار مبادرة الشراكة من أجل الحكومة المنفتحة (OGP) لسنة 2024–2028 أن التزامات الشفافية المفتوحة لا تزال في جزء كبير منها على مستوى التعهدات، مع إنجاز جزئي أو متواضع في عدد من المجالات، خاصة ما يتعلق ببيانات الصفقات العمومية، وميزانيات الجماعات، والمعطيات التفصيلية حول تنفيذ البرامج العمومية. هذا التعثر يضع مصداقية “خطاب الانفتاح” موضع سؤال، ويُبقي الشفافية في خانة “المعلّقة” بين القانون والواقع.​

كلفة سياسية لعدم الحسم

ونبهت منظمات دولية مثل “فريدوم هاوس” في تقاريرها السنوية إلى أن ضعف المساءلة والشفافية، وتضييق مساحة المجتمع المدني، ينعكسان على تصنيف المغرب في مؤشرات جودة الديمقراطية والحريات. تقارير تحليلية حديثة تربط بين موجات الاحتجاج الاجتماعي، خاصة وسط الشباب، وبين الإحساس بأن الفساد والزبونية ما زالا يلعبان دورا مركزيا في توزيع الفرص والموارد والمناصب.​

هذا المناخ له كلفة سياسية واقتصادية: تآكل الثقة في المؤسسات المنتخبة، إحجام المستثمرين عن الانخراط الكامل في مشاريع طويلة الأمد إذا غاب يقين قانوني، واستنزاف طاقة المجتمع في مواجهة يومية مع مظاهر الرشوة والمحسوبية بدل الانخراط في مسار إصلاح تراكمي. ويتحول مؤشر إدراك الفساد السيئ الأداء بدوره إلى إشارة سلبية للمؤسسات الدولية والأسواق، ما يفاقم صورة بلد “لديه القوانين والمؤسسات لكن ينقصه التنفيذ الصارم والمتساوي”.​

لماذا يتعثر المسار؟

من خلال تجميع خلاصات التقارير الدولية والوطنية، يمكن تلخيص العوامل البنيوية لتعثر مسار مكافحة الفساد في المغرب في نقاط رئيسية:

تعدد المؤسسات المعنية دون تنسيق عملياتي قوي، ما يخلق مناطق رمادية في المسؤولية ويضعف فعالية المتابعة.​

انتقائية في تحريك المتابعات، تجعل جزءا من الرأي العام يعتبر أن “القانون لا يُطبق على الجميع بنفس الصرامة”، خاصة في الملفات ذات الحمولة السياسية أو الاقتصادية الكبيرة.​

تضييق تدريجي على دور المجتمع المدني في التقاضي ضد الفساد، كما يظهر في مشروع القانون 03.23، ما يحرم المنظومة من “عين خارجية” مستقلة تكشف ما قد تغفل عنه أو تُهمله المؤسسات الرسمية.​

ضعف ثقافة الشفافية داخل الإدارة، وتباطؤ في تفعيل الحق في المعلومة، ما يُبقي المعطيات الحساسة حول المال العام في نطاق ضيق يصعب تدقيقه مجتمعيا وإعلاميا.​

نحو شفافية فعّالة لا معلّقة

كي يخرج مسار مكافحة الفساد من حالة “الشفافية المعلّقة”، تحتاج الدولة إلى ما هو أبعد من إعلان النوايا أو خلق مؤسسات إضافية. فالتقارير المتخصصة تقترح مسارات عملية، من بينها: تعزيز استقلالية الهيئات الرقابية ومنحها صلاحيات تحقيقية أقوى، وحماية المبلغين عن الفساد بشكل فعلي، وتوسيع دائرة نشر البيانات المفتوحة حول الصفقات والميزانيات، وتمكين المجتمع المدني والإعلام من الولوج الحر للمعلومات دون عراقيل.​

الأهم سياسيا هو إبداع “إشارات ثقة” قوية، بمتابعة ملفات فساد كبرى إلى نهاياتها القضائية مهما كان أصحابها، وتطبيق صارم لقواعد تضارب المصالح، وربط واضح بين تقارير المجلس الأعلى للحسابات والقرارات القضائية أو الإدارية اللاحقة. دون هذه النقلة من مستوى الشكل إلى الجوهر، ستظل مسيرة محاربة الفساد في المغرب محكومة بعنوان هذا التحقيق: شفافية معلّقة، ومؤسسات كثيرة، وتشريعات وفيرة… لكن النتائج متواضعة لا تُقنع مواطنا يبحث عن عدالة قبل أن يبحث عن تقارير.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.