في زيارة رسمية هي الثانية من نوعها خلال عامين، وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة مساء أمس الأحد، حيث رافقته طائرات الرافال المصرية في مشهد رمزي يعكس عمق التعاون العسكري بين فرنسا ومصر. ورغم أن اللقاءات الدبلوماسية بين البلدين تتسم بالودية والبراغماتية، إلا أن لهذه الزيارة أبعادًا تتجاوز البروتوكولات الرسمية وتدعو للتساؤل حول الرسائل التي يحملها ماكرون، خاصة في ظل التوازنات الإقليمية المتغيرة في المنطقة.
الزيارة التي تشمل ثلاثة أيام من المحادثات الثنائية والمباحثات المتعلقة بالأزمات الإقليمية، وعلى رأسها الوضع في قطاع غزة، تأتي في وقت دقيق بالنسبة لكل من مصر وفرنسا. فمصر، التي تسعى جاهدة لتأكيد مكانتها كقوة إقليمية قادرة على التأثير في القضايا العربية والدولية، تجد نفسها في مواجهة تحديات مستمرة، ليس فقط على المستوى الداخلي من خلال الصعوبات الاقتصادية، بل أيضًا في سعيها لإعادة تفعيل دورها في القضية الفلسطينية. في حين أن فرنسا، التي تعاني من ضغوط داخلية وتحديات في تعزيز نفوذها على الساحة الدولية، تحتاج إلى تعزيز تحالفاتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو ما يظهر بوضوح في هذه الزيارة.
الملفت في هذه الزيارة هو تركيز المحادثات على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة وإعادة إعمار القطاع، وهي قضية كانت دائمًا محور اهتمام مصر في سياق علاقاتها مع الدول العربية، وتحديدًا مع الفلسطينيين. ولكن هل يمكن لفرنسا، التي لها تاريخ طويل من الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، أن تكون بالفعل محورية في دفع الأطراف نحو حل حقيقي، أم أن التصريحات التي يُرَوَّج لها هي مجرد خطوة دبلوماسية تهدف إلى تهدئة الرأي العام في العالم العربي، مع الحفاظ على موقفها الثابت تجاه إسرائيل؟ هل يحمل هذا الموقف تناقضًا يصعب تجاوزه في سياق الشراكة مع مصر، التي تمثل أحد أقوى المناصرين للفلسطينيين في المنطقة؟
كما أن زيارة ماكرون لعدد من المعالم السياحية والتاريخية في القاهرة، مثل مسجد الإمام الحسين وخان الخليلي، قد تكون لها بعد آخر لا يقل أهمية. فاختيار هذه المواقع بالتحديد يبدو أنه يعكس رغبة فرنسية في تعزيز صورة فرنسا كداعم للتراث الثقافي والحضاري الإسلامي، وهو ما يتجاوز مجرد زيارة بروتوكولية، بل يعكس سياسة ناعمة تهدف إلى تحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، خاصة في ظل التوترات الأخيرة بين فرنسا والجاليات المسلمة في أوروبا. لكن يبقى السؤال: هل هذه الحركات تُترجم إلى تغيير حقيقي في السياسة الفرنسية نحو العالم العربي، أم أن الهدف هو مجرد تجميل الصورة في إطار العلاقات العامة؟
وفي الوقت نفسه، تشير هذه الزيارة إلى صراع أوسع على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مع تزايد التواجد الروسي والتركي، وأيضًا تزايد النفوذ الصيني في المنطقة، يسعى ماكرون إلى استعادة دور فرنسا كلاعب رئيسي في السياسة الإقليمية. فمصر، التي تمثل قلب العالم العربي، تعد بمثابة حجر الزاوية في أي استراتيجية غربية جديدة تهدف إلى مواجهة التوسع الروسي والصيني. هل يمكن لفرنسا أن تستفيد من علاقتها الاستراتيجية مع مصر لتعزيز دورها في المعادلات الإقليمية الجديدة؟ وهل ستكون مصر قادرة على المناورة بين القوى الكبرى المختلفة دون التأثير على علاقاتها التقليدية مع الغرب؟
زيارة ماكرون إلى القاهرة قد تبدو في الظاهر مجرد خطوة دبلوماسية روتينية، لكنها في حقيقتها محاولة لتعزيز التحالفات الاستراتيجية بين مصر وفرنسا في ظل تحولات إقليمية ودولية حاسمة.