يثير موضوع الزمان إشكالات لا تنتهي. فهذا لغز قديم، بل هو من أقدم ألغاز الفكر والفلسفة، ومن أصعبها تناولا وأعقدها حلا. ومع ذلك لا شيء أقرب إلى الإنسان من الزمان، فوجوده نفسه- وما فيه من أحاسيس وأعمال- يقع داخل إطار الزمان.
ومنذ القدم اختلف الفلاسفة في موضوع الزمان على رأيين:
الأول يرى أنه لا وجود للزمان خارج الروح، فهو إحساس ذاتي لا علاقة له بالكون، ولذلك لا نستطيع أن نتمثل الزمان خارج أنفسنا.
والثاني يرى أن الزمان حقيقة واقعية، لها وجودها المستقل، ومن ثَم فإن الزمن واحد لا يختلف مهما اختلفت العوالم والحركات والأشخاص. ومن أبرز العلماء الذين ثبَّتوا هذه الفكرة: نيوتن.
ومهما اعتبرنا الزمان إحساسا ذاتيا أو شيئا واقعيا، فإن مشكلة أخرى تظهر، وهي: كيف نفسر الزمان؟
لقد اعتبر أرسطو أن الزمن هو مقدار الحركة والتحول. وهذا التصور هيمن طويلا على كثير من الاتجاهات الفلسفية، لكنه يثير إشكالات كثيرة بيَّن ابن رشد بعضها: فنحن مثلا نشعر بالزمان حتى حين نكون في الظلمة لا نتحرك. ولو كان الزمان هو حركة الأفلاك السماوية ما أحس به الإنسان الأعمى، أو كان نتيجة حركة معينة أخرى لم يكن للذي لا يراها أي إحساس بالزمان. ثم لو كان الزمن ثمرة أي حركة، غير حركة الأفلاك، لتعددت أنواع الزمان بتعدد أنواع الحركات.
أما الزمان في الفيزياء النسبية فلا يوجد مستقلا ومطلقا، بل يرتبط بفضاء ما. فإذا تصورنا فضاءين مختلفين كان عندنا زمانان مختلفان. ومن نتائج هذا النظر أن الزمن “تحوّل” إلى الفضاء، بل الفضاء نفسه يمكن أن “يتحول” -نسبيا- إلى الزمان. كما أن الزمن يتمطط ويتمدد بالحركة.
ولهذا اعتبر بعض المفكرين أن هذه الفيزياء تنفي الزمان، مثلها مثل فيزياء نيوتن. فهذا جعل الزمان من المطلق، فهو الحاضر الدائم، والنسبية ربطته بالفضاء ربطا فيزيائيا “ماديا”.
والمشكلة في النسبية أنها قررت التعادل الفيزيائي بين الفضاء والزمان، ولكنها لم تفسر الفروق بينهما، وهي فروق واضحة في التجربة وعلى مستوى إحساسنا، كما يقول برجسون. كما أنها لا تفسر لماذا لا يرجع الزمان إلى الوراء بخلاف المكان، بل يظل يتقدم أبدا. نحن نعرف هذه الظاهرة حين ندرك أن الماضي لا يعود، فقد تركناه وراءنا، أما المستقبل فهو دائما أمامنا.
وهنا مرة أخرى يبرز الفرق بين الزمان الفيزيائي والزمان الحي، أو “الواقعي”. ذلك أن الزمان في الفيزياء -الكلاسيكية والنسبية- ينعطف إلى الوراء، وفي معادلاتها يكون الزمن إيجابا (t+)، وسلبا (t-). ولهذا رفض أينشتين مبدأ “عدم رجعية الزمان” وأنه يسري في الكون، وتمسك بما تعطيه الميكانيكا النسبية من إمكان رجعية الزمان. ورأى آخرون في بعض مبادئ الديناميكا الحرارية الدليل على وجود “سهم الزمان”، أي أنه لا يتحرك إلا في اتجاه واحد.
ومما يلفت انتباه دارس الوحي الكريم حضور موضوع الزمان فيه عبر نصوص كثيرة. فمن ذلك أن القرآن يتحدث عن أزمنة مختلفة لاعن زمان واحد: ﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون.﴾ ويقرر قدرة النوم على تجاوز الزمن، كما في قصة أهل الكهف الذين قالوا بعد 309 سنة من الرقاد: ﴿ لبثنا يوما أو بعض يوم.﴾
ومن الغريب أيضا أن وحدة القياس في أخبار الوحي عن الآخرة وأحوالها هي الزمن، ففي الجنة تسير مئات الأعوام ولا تحدُّها. والخلق يوم يحشرون ينتظرون الحساب أربعين سنة. ومن أودية جهنم ما يهوي فيه الشيء سبعين خريفا ولا يبلغ قعره… الخ.
إن موضوع الزمان يستعصي على الفهم البشري، فهو موضوع يتجاوز العقل، أو لنقل فيه أشياء كثيرة تتجاوز العقل. لذلك لابد من التحوّل من التفلسف حول الزمان إلى اغتنامه في الخير والطاعات وما ينفع في الدين والدنيا. إذ نحن في الغالب نراقب أعمارنا تتسرّب منّا شيئا فشيئا دون ان نفعل شيئا.
لذلك اخترت هذه الرسالة -تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر- التي ألّفها العالم الحافظ الفقيه أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي المتوفي ببغداد سنة 597 للهجرة. وهي في بيان مراحل العمر وأطوار الحياة، وأهم خصائص كل مرحلة عمرية، وكذا أهم ما يجب الاعتناء به في كل مرحلة والمبادرة إليه. ولخّصتُ أهم ما في الرسالة. يقول ابـــــن الجــــــوزي:
الحمد لله الذي جعل الأعمار مواسم، يربح فيها المُمتثل ويخسر فيها المُضيع. وبهذا العمر اليسير يُشترى الخلود الدائم في الجنان، والبقاء الذي لا ينقطع كبقاء الرحمان، ومن فرّط في عمره وقع في الخسران. فينبغي للعاقل أن يعرف قدر عمره، وأن ينظر لنفسه في أمره، فيغتنم ما يفوت استدراكه وربما جعل بتضييعه هلاكه. ومواسم العمر خمسة:
1- الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمان البلوغ، وذلك خمس عشرة سنة.
وهذا الموسم يتعلق معظمه بالوالدين (أي هما المخاطبان) فهما يربيان الطفل ويحملانه على مصالحه، ولا ينبغي أن يفترا عن ذلك، فإن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ قوا أنفسكم وأهليكم نارا﴾: علّموهم وأدبوهم./. فيعلمانه ويشجعانه على الصلاة ويُحفظانه القرآن ويسمعانه الحديث، ويُقبّحان عنده ما يقبح… على قدر ما يحتمل. فهذا موسم الزرع. وقد يرزق الصبي ذهنا من صغره فيتخير لنفسه: ﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل.﴾
فإذا عبر الصبي خمس سنين بان فهمه ونشاطه في الخير. فإذا راهق الصبي فينبغي لأبيه أن يزوّجه. والعجب من الوالد كيف لا يذكر حاله عند المراهقة، وما لقي وما عانى بعد البلوغ، أو كان قد وقع في زلّة فيعلم أن ولده مثله. ويندر من يؤثر التعلم على النكاح ويصير كأحمد بن حنبل لم يتزوج إلا بعد الأربعين.
الموسم الثاني: موسم صيانة النفس وجهاد الهوى.
هو من زمان البلوغ إلى منتهى الشباب. وهذا هو الموسم الأعظم الذي يقع فيه الجهاد للنفس، وبصيانته يحصل القرب من الله تعالى، وبالتفريط فيه يقع الخسران العظيم، وبالصبر فيه على الزلل يكون فوز الصابرين، كما أثنى تعالى على يوسف: ﴿ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.﴾
قال النبي عليه الصلاة والسلام: عجـِب ربك من الشاب ليست له صبوة. (قال الألباني في ضعيف الجامع: أخرجه أحمد والطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر، وسنده ضعيف). ويقول الله تعالى: أيها الشاب التارك شهوته من أجلي أنت عندي كبعض ملائكتي. (رواه ابن عديّ من حديث ابن مسعود بسند ضعيف.)
ولابد من الحث على التعلم في هذا الموسم، وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه وجب عليه معرفة الله تعالى بالدليل. ويعلم أنه قد نزل إليه ملكان يصحبانه طول الدهر ويكتبان عمله ويعرضانه على الله تعالى: ﴿ وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون .﴾
وليغض الشباب طرفه، وليكتف بالمرأة الواحدة، ولا يكثر الاستمتاع، فليس له منتهى. وكان خلق كثير يتأسفون في حال الكبر على تضييع موسم الشباب، فليُطل القيام من سيَقعد، وليكثر الصيام من سيعجز.
فالصبرَ الصبرَ، ومن زلّ من الشباب فلينظر أين لذتها وهل بقي إلا حسرتها الدائمة التي كلما خطرت له تألم، فصار ذكرها عقوبة. قال الجنيد: لو أقبل عبدٌ على الله ألف سنة، ثم عرض عنه لحظة كان الذي فاته أكثر مما حصل له. وقال بعض السلف: وددت لو أن يدي قطعت وعُفي لي عن ذنوب الشباب.
3- الموسم الثالث، وهو حال الكهولة.
هذا زمان فيه بقية من شباب، وللنفس فيه ميل إلى الشهوات، وفيه جهاد حسن، وإن كانت طاقات الشيب تفزع وتزعج من مهاد اللهو. وليكتف الكهل بنور الشيب الذي أضاء له سبيل الرحيل، حتى يربح لكن لا كربح الشباب.
4- الموسم الرابع: وهو الشيخوخة.
قد يكون في أول الشيخوخة بقية هوى، فيثاب الشيخ على قدر صبره. وكلما قوي الكبر ضعفت الشهوة فلا يُراد الذنب. ولهذا قال النبي الكريم: “أربعة يبغضهم الله عز وجل: البيّاع الحلاّف، والشيخ الزاني، والفقير المختال، والإمام الجائر.” (النسائي وابن حبان عن أبي هريرة، بسند صحيح.)
وقد يقول الشيخ العالم: علمي يدفع عني. وينسى أن علمه حجة عليه. قال الفضيل بن عياض: يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، يقول الله: أفمن يعلم كمن لا يعلم. وقال أبو الدرداء: ويل لمن يعمل ولا يعلم مرة، وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات.
5- الموسم الخامس: وهو حال الهرم.
روى أبو يعلى عن أنس رفعه: ابن الثمانين أسير الله في الأرض./. والاستغفار والدعاء عمل ما يمكن من الخير اغتناما للساعات وتأهبا للرحيل. وكان عامر بن القيس – من نُسّاك التابعين – يصلي كل يوم ألف ركعة، فلقيه رجل فقال: أكلمك كلمة. فقال أمسك الشمس. وقال لرجل سأله: اعجَل فإني مبادر، قال: وما الذي تبادر؟ قال خروج روحي.
ومن نظر في شرف العمر اغتنمه، ففي الحديث: “من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة.” (صحيح رواه الترمذي وابن حبان والحاكم.) وقد رأينا جماعة من الأشياخ يرتاحون إلى حضور الناس عندهم، وسماع الأحاديث التي تضر ولا تنفع، فيمضي زمانهم في غير شيء، ولو فهموا كانت تسبيحةٌ أصلح لهم. قيل لعابد: ارفـُق بنفسك، قال: الرفقَ أطلبُ.
والخلاصة أن من عرف شرف العمر وقيمته لم يفرط في لحظة منه.