مسيرات حاشدة تجوب شوارع بعض العواصم الغربية، تجمعات بشرية ضخمة تموج بالمديح في إندونيسيا وأقصى شرق آسيا، مواكب للشموع وليال للذكر في المغرب، وحفلات الموالد الطافحة بمجالس الذكر وموائد الرحمان تؤثث أحياء القاهرة العتيقة ودمشق التاريخية واليمن السعيد.
بإيقاع متزايد في السنوات الأخيرة، بات العالم يشهد احتفالات كبيرة بالمولد النبوي الشريف، كلما استعرّت حملات التشويه والتخويف والتحريف ضد الإسلام ونبيّه محمد ﷺ.
فباستثناء بعض دول الخليج التي لا تحتفل بالمناسبة رسميا، تشهد باقي دول وشعوب العالم الإسلامي مع حلول ربيع الأول من كل سنة، مظاهر احتفالية كبيرة تنوعت في مضامينها تبعا لتنوع العادات والتقاليد المحلية التي يتميز بها كل بلد عن غيره.
حجج المحتفلين والممتنعين
يحتج المعارضون لفكرة الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم وجود أي دليل شرعي على شرعية هذا الاحتفال، وبمخالفة ذلك لما اعتاده المسلمون طيلة عهد الرسول ﷺ ومن تبعه من الخلفاء الراشدين، بما يفيد أن الأمر يتعلق ببدعة مستحدثة، وبوجود قدر من التأسي بالنصارى الذين عُرف عنهم تاريخيا الاحتفال بما يعتقدونه ذكرى مولد المسيح عليه السلام، ثم ما يتخلل هذه الاحتفالات في بعض الأحيان من ممارسات مخالفة للإسلام من قبيل الإفراط في مدح الرسول ﷺ والاختلاط وبعض الطقوس الوثنية.
أما المدافعون عن صواب فكرة الاحتفال بالمولد النبوي، فيقدمون حججا من قبيل أن هذه العادة وإن كانت مستحدثة، فإنها تتيح فرصة للإكثار من ذكر الرسول ﷺ، كما تسمح بتذكر محاسن سيرته والزيادة من التعلق به وحبه، إلى جانب ما يتخلل هذه الاحتفالات من عمل خيري وإطعام للطعام واجتماع على الخير كالذكر وقراءة القرآن. ويدافع المقبلون على هذا الاحتفال عن رأيهم بالقول إنها وإن كانت بدعة فإنها بدعة حسنة.
مصر الفاطمية.. المبادرون
تكاد المصادر تجمع على أن أول احتفال بذكرى مولد الرسول محمد ﷺ كان في عهد حكم العبيديين الذين أقاموا عدة مناسبات احتفالية لم تكن موجودة في السابق، من قبيل رأس السنة الهجرية وعاشوراء.
ففي عهد هذه الدولة، حُملت أول مرة صواني الحلوى إلى الجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخلافة حيث تُلقى الخطب ويرفع الدعاء للخليفة. وكان الخليفة الفاطمي المعز لدين الله نظّم أول احتفال بالمولد النبوي عام 362هـ، وذلك بعد دخوله مصر ببضعة أشهر، وكان هدفه من إقامته تقريب المصريين إليه وضمان انقيادهم لحكمه وسلطته.
ويفسّر حسن السندوبي هذه النقطة في كتابه “تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي.. من عصر الإسلام الأول إلى عصر فاروق الأول”، بالقول: إن المعز لدين الله بحث عن وسيلة لاستمالة القلوب وامتلاك النفوس، حتى يألف المصريون الدولة، “ولمّا كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول مع الاعتدال في التشيع لهم.. رأى المعز لدين الله أنّ أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه، إقامة مواسم حافلة وأعياد شاملة في مواعيد مقررة وكان من أولها وأجلّها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف”.
وفي استطلاع قصير أنجزته وكالة الأنباء الفرنسية عشية ذكرى المولد النبوي لهذا العام، نقرأ: ما إن تطأ قدماك مدخل شارع باب البحر -أحد شوارع مصر القديمة وسط القاهرة- حتى تفوح روائح الحلوى التي اعتاد المصريون صنعها وتناولها احتفالا بذكرى المولد النبوي الشريف الذي يصادف يوم السبت 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
على جانبي الشارع التاريخي الذي يقع قرب منطقة القاهرة الفاطمية، يجلس صانعو الحلوى أمام محالهم وتُعرض خلفهم منتجات حلوى المولد على رفوف خشبية، وأبرزها العرائس والأحصنة المصنوعة بالكامل من السكر والمزيّنة بالعديد من الألوان والمواد اللامعة لإدخال الفرح إلى نفوس المصريين.
ولا تقتصر حلوى المولد في مصر على العرائس، بل تُصنع منتجات عديدة من المكسرات وتُسقى بالعسل مثل الفول السوداني والسمسم والحمّص.
ولا يمكن الحديث عن الشق الاحتفالي بالمولد في مصر دون الوقوف عند هذه الحلوى التي تحافظ عليها دروب مصر العتيقة. ويحكي المختصون قصة هذه الحلوى التي ابتدعها الفاطميون، حين قاموا بإحداث مخازن لصناعتها، وقبل مولد النبوي بشهرين توزع مجانا على الشعب، ليتطور الأمر بعد ازدياد الاحتياجات بظهور محلات لبيعها تحت اسم “العلاليق”، لأنها كانت تعلق على أبواب المحلات التجارية في سوق مخصوص للحلويات كان يسمى سوق الحلوين.
الأيوبيون.. ممانعة فإحياء
تذهب بعض المصادر إلى نسبة أول احتفال بذكرى المولد النبوي إلى عهد الملك “المظفّر” صاحب أربيل بمنطقة كردستان، وهو ما يثير خلافات كبيرة، على اعتبار أن عهد هذا الملك كان متأخرا عن عهد الفاطميين الذين أحدثوا هذه المناسبة خلال حكمهم لمصر في القرن الرابع الهجري، بينما يقع حكم “المظفّر” في القرن السابع الهجري.
فرغم محاولة صلاح الدين الأيوبي ومن تبعوه في الحكم محو آثار الفاطميين عبر حظر جل ما أقروه من احتفالات كان من بينها ذكرى المولد، فإن ذلك لم يفلح في اندثارها، حيث أدى ذلك إلى انتقال الاحتفالات إلى أماكن أخرى خارج مصر، سواء عبر المبادرات الشعبية أو من خلال سعي حكام آخرين إلى استدرار الشرعية عبر الاحتفال بالمولد النبوي.
وأبرز من يَنسب إليه التاريخ بعث هذه الاحتفالات من جديد، هو حاكم أربيل مظفر الدين كوكبوري، والذي تذهب بعض المصادر إلى درجة اعتباره أول من قام بالاحتفال رسميا بالمولد النبوي.
فهذا الملك كان متزوجاً من ربيعة خاتون أخت صلاح الدين الأيوبي. ورغم قرابته تلك بصلاح الدين ومن كونه سنيا معارضا للتشيع، رأى في الاحتفال بالمولد النبوي وسيلة للدعاية السياسية لدولته الصغيرة، فأقام احتفالات ضخمة بالمولد.
يصف شمس الدين الذهبي هذه الاحتفالات في كتابه سير أعلام النبلاء بقوله: “كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة، وتُنصب قباب خشب له ولأمرائه وتُزين، وفيها جوق المغاني واللعب، وينزل كل يوم العصر فيقف على كل قبة ويتفرج، ويعمل ذلك أياماً، ويُخرج من البقر والإبل والغنم شيئاً كثيراً، فتُنحر، وتطبخ الألوان، ويعمل عدة خلع للصوفية، ويتكلم الوعاظ في الميدان، فينفق أموالاً جزيلة”.
كما يذكر ابن خلكان في كتابه “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان” أن جموع المحتفلين كانت تقدم إلى أربيل في موعد الاحتفال في كل عام، وذلك من نواحي بغداد والجزيرة وسنجار والموصل ونصيبين وبلاد العجم، وهو الأمر الذي يُفهم معه تعاظم النفوذ السياسي والروحي لحاكم أربيل.
وفي عهد المماليك الذي أعقب حكم الأيوبيين وسبق بسط سلطة العثمانيين على مصر، كان الاحتفال بليلة المولد يتم في قلعة ذات أوصاف خاصة تسمى “خيمة المولد”، وكان أول من وضع هذه الخيمة السلطان المملوكي الشركسي قايتباي، وقيل في وصف هذه الخيمة إنها زرقاء اللون على شكل قاعة فيها ثلاثة أواوين وفي وسطها قبة مقامة على أربعة أعمدة وبلغت كلفتها نحو ثلاثين ألف دينار.
ففي أواخر العصر المملوكي حرص السلاطين على إقامة الاحتفالات بالأعياد والمناسبات الدينية، وعلى الاحتفال بالمولد النبوي على وجه الخصوص، وذلك بفعل إحساسهم بغربتهم عن محيطهم المجتمعي، وإدراكهم للمفعول القوي والتأثيرات الكبرى التي تحدثها تلك الاحتفالات في قلوب المصريين، لكن الطابع المميز للمولد النبوي في العصر المملوكي كان الاتجاه للبذخ والإسراف في مظاهر الاحتفال، فقد تبارى السلاطين في الإنفاق عليه، ونقل العديد من المؤرخين شهاداتهم على ما عاينوه في هذا اليوم من مظاهر للترف والدعة.
العثمانيون.. التفاتة متأخرة واحتفال مضاعف
اتخذ الاحتفال في عهد الخلافة العثمانية شكلا آخر، حيث كان يُحتفل بالمولد كل عام في مسجد معين، ولما كان عهد السلطان عبد الحميد الثاني قصره على الجامع الحميدي، وكان العلماء والناس يخرجون في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول فيدخلون المسجد مع السلطان، فيقرؤون القرآن ثم يرددون قصة مولد النبي ثم كتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبي، ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم في صبيحة يوم 12 من ربيع الأول يجيء كبار الدولة لتهنئة السلطان.
يمكن الجزم عموما بأن العهد العثماني شهد خفوتا نسبيا في الاحتفال بالمولد النبوي، حيث كان يتم الاحتفال الرسمي بالمولد النبوي على مستوى “الدولة” فقط وليس على المستوى الشعبي، فقد كان الاحتفال بالمولد النبوي يتم من خلال اجتماع السلطان والوزراء والمسؤولين الرفيعي المستوى في القصر، ويحضر قارئ للقرآن وعالم يلقي موعظة عن النبي ﷺ.
ورغم انحسار دائرة الالتحام بين السلطة الرسمية وعموم الشعب في الاحتفال بالمولد، فإن الدولة العثمانية عبّرت عن قدر من الاهتمام بهذه الذكرى من خلال تحويله رسميا إلى يوم عطلة رسمية منذ أواخر القرن الـ16، وشروع السلاطين العثمانيين في الإفراج عن بعض السجناء بهذه المناسبة الدينية.
وبدءا من العام 1910 توسعت دائرة الاحتفال أكثر، حيث بات يُسمح تدريجيا للناس بالتجمع بعد صلاة العشاء أمام قصر الباب العالي وبالتحديد في ساحة مسجد السلطان أحمد. وأثناء توافد الحضور إلى الاحتفال كان يُسكب على أيديهم عطر الورد وتوزع الحلوى في أطباق فضية، وبعد الانتهاء من الاحتفال كانت تستمر الضيافة التي تشمل تقديم صناديق حلوى صغيرة و”الشربة العثمانية” وعصير الليمون بالنعنع.
وإذا كان الانفتاح على الاحتفالات الشعبية قد تم في وقت متأخر من عمر الدولة العثمانية، فإن وريثتها، أي الدولة التركية، ورغم علمانيتها الرسمية، باتت تتميّز بالاحتفال بالمولد النبوي مرتين في السنة وليس مرة واحدة. فالاحتفال الأول يتم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول للسنة الهجرية، وكذلك خلال شهر أبريل/نيسان، بالنظر إلى أن النبي محمد ﷺ ولد بتاريخ 20 أبريل/نيسان من عام 571 للميلاد.
المغرب العربي.. حامل المشعل
تكاد منطقة المغرب العربي تعتبر الحامل الأخير لمشعل الاحتفالات بالمولد النبوي بعد المرحلة الفاطمية، ففي هذه المنطقة يتم الاحتفال بالمولد النبوي على نطاق واسع، دون أن يخلو الأمر من خلافات فكرية بشأن الاحتفال من عدمه، خاصة بين الفقهاء وشيوخ الصوفية.
وقد سجّل المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي، كيف أن الإحياء الرسمي لعادة الاحتفال بالمولد النبوي جرى في المغرب بشكل متزامن مع اعتماده رسميا في أربيل الكردية. ويوضح التازي في مقالة له نشرها في مجلة “دعوة الحقّ” عام 1989، أن الذين تنبهوا إلى ذلك أول مرة في المغرب هم “بنو العزفي” الذين كانوا يحكمون إمارة مدينة سبتة في أقصى شمال المغرب أواخر القرن السادس الهجري.
وهذه الحقيقة التاريخية يزكيها الأكاديمي المغربي محمد شقير، ويفسّرها في دراسة له بالقول إن مبادرة هذه الأسرة الحاكمة في المغرب إلى إقرار المولد كاحتفال رسمي جاء من أجل “إبراز معالم الهوية الإسلامية في مجتمع كثير الاحتكاك بالثقافات المسيحية واليهودية المخالفة والتي تهدد الثقافة والتقاليد الإسلامية بالذوبان والاضمحلال”، ولـ”إظهار ملامح الاختلاف والتميز عن الثقافات الأخرى السائدة في المحيط والتي تتمسك بطقوسها واحتفالاتها وأعيادها”.
وانتقل هذا الإقدام على الاحتفال بالمولد النبوي خلال أقل من قرن من الزمان من مدينة سبتة الصغيرة في أقصى شمال المغرب إلى مركز الدولة المغربية التي كانت تحكمها حينها سلالة تحمل اسم “بني مرين”.
وصدر المرسوم الملكي الذي يقر الاحتفال بالمولد النبوي في شتاء 691 للهجرة، الموافق لـ1292 للميلاد، وذلك بعد عودة العاهل المغربي من غارة قادها إلى الأندلس لرد عدوان على الثغور التابعة للمغرب، ليشرع العاهل بـ”الاحتفال بعيد المولد في سائر جهات المغرب ويعتبره يوما رسميا للدولة تتبادل فيه التهاني بين سائر طبقات البلاد، وهو الأمر المحمود الذي استمر عليه التقليد إلى اليوم في بلاد المغرب“.
جرى إقرار الاحتفال بالمولد النبوي أول الأمر عبر التركيز على تلقينه للأطفال من رواد الكتاتيب القرآنية، حيث كان يقام لهم احتفال خاص، “فيعطي كل أب لولده شمعة كبيرة تساوي ثلاثين إبرة، وعلى الشموع نقوش وزخرفة بالألوان والخطوط الهندسية، وصور بأزهار بارزة من الشمع، وتوقد من أول الليل إلى الشروق، ويأتي المعلم بمنشدين يتغنون بالمدائح النبوية طوال الليل، وما بقي من الشمع يأخذه المعلم ويبيعه..”
احتفال ملكي وشعبي
يترأس الملك المغربي في الوقت الحاضر -وهو في الوقت نفسه حامل لقب أمير المؤمنين- حفلا دينيا رسميا في ليلة الحادي عشر من ربيع الأول، يشارك فيه جميع مسؤولي الدولة وممثلو الدول الإسلامية لدى المملكة. كما يصدر الملك عفوا بهذه المناسبة عن عدد من السجناء، وتقام ليال مماثلة للاحتفال في جميع أنحاء البلاد، خاصة منها مقرات الزوايا الصوفية، حيث تُردد المدائح والأوراد ويرفع الدعاء.
ويشدّد المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي، على أن دواعي إنشاء مثل هذا الاحتفال بعيد المولد لم تكن فقط التعقيب على الشيعة الذين اعتادوا الاحتفال بمولد الإمام علي والحسين، “ولكن الأمر يتعلق بمنافسة العادة التي جرى عليها المسيحيون في احتفالهم بعيد المسيح، أو بالأحرى بجعل بديل لما أخذ بعض المسلمين يقومون به في الأندلس”.
ومصدر المخاوف من التأثير المسيحي في سلوك المسلمين هو أن بعض المسلمين في الأندلس أخذوا يشاركون المسيحيين في احتفالهم بعيد السيد المسيح. ولما كانت المعتقدات والممارسات الدينية لا تخلو من ارتباط بالرهانات والصراعات السياسية، كان لزاما على المغرب أن يواجه هذا المدّ القادم من أوروبا المسيحية برفع ذكرى المولد إلى مستوى يحقق به الإشعاع والالتحام الوطني.
ويضيف إلى ما سبق الباحث المغربي المختص في العلوم السياسية محمد شقير، أسبابا خاصة بالأسرة المرينية التي كانت تحكم المغرب وقتها، منها افتقادها لأية شرعية دينية بخلاف الحكم المرابطي أو الموحدي، ثم تنامي نفوذ الشرفاء الأدارسة بمدينة فاس عاصمة الحكم، خاصة بعد اكتشاف قبر المولى إدريس، ثم ظهور قوى سياسية منافسة للحكم المريني مرتكزة إلى “الشرف” كمصدر للمشروعية كالزوايا وكل من الأسرتين السعدية والعلوية اللتين ستخلفانها في الحكم فيما بعد.
وترجّح المصادر أن إقرار هذه الذكرى الدينية الجديدة قد انتقل بعد ذلك إلى كل من المغربين الأوسط والأدنى (الجزائر وتونس)، رغم أن البعض يرجّح تأثر تونس على الخصوص بالمرحلة الفاطمية في بدء الاحتفال بالمولد النبوي.
ومما يؤكد فرضية انتقال الاحتفال من المغرب إلى كل من الجزائر وتونس، أن سلاطين الدولة الحفصية التي كانت قائمة في تونس في القرن الثامن الهجري الـ16 الميلادي، حاولت مواجهة الخطر المريني الزاحف عليها من المغرب بإقرار احتفالات مماثلة بالمولد النبوي، وذلك تحديدا في عهد السلطان الحفصي أبو يحيى المتوكل أبو بكر بن يحيى، “والهدف على ما يبدو تقليد المرينيين، وكسب ود العامة والخاصة إلى جانبه، خاصة أن الخطر المريني بدأ يلوح في الأفق”.
موالد الشام.. تنميط رسمي وتلقائية شعبية
في العام 2012، نشر الباحث “توماس بييريه” دراسة مطولة عن الاحتفال بالمولد النبوي في المدن السورية في علاقة بسلطة العلماء، وذلك ضمن كتاب جماعي أصدرته جامعة “إدنبرا” الأسكتلندية.
واهتمت الدراسة برصد الاحتفال بالمولد النبوي في العاصمة السورية دمشق منتصف العقد الماضي من طرف العلماء، خلافا للدراسات المعتادة التي تنظر إلى الموضوع من زاوية الاحتفال الشعبي.
وقبل أن تنغمس في عملها البحثي الأكاديمي، تقدّم هذه الدراسة وصفا لما تقول إنه طريقة للاحتفال بذكرى المولد النبوي في عاصمة الشام. ويفيد هذا الوصف أن هذه الاحتفالات تستمر قرابة ستة أسابيع، بدءا من يوم 12 ربيع الأول من كل سنة. وتجري الاحتفالات عبر مظاهر خاصة، تتمثل في تزيين المساجد بمصابيح ملونة، وتعتلي جدرانها أعلام باللونين الأحمر والأخضر، وتجري الموالد (الحفلات) بشكل يومي، حيث تصل التجمعات في بعض المساجد إلى خمسة آلاف مشارك.
وعن مجريات هذا الاحتفال تقول الدراسة إن المشهد ينطلق مباشرة بعد صلاة العشاء، ويستمر قرابة أربع ساعات، حيث يتجمع الرجال والنساء بشكل منفصل عن بعضهما البعض، ويتم تقديم المياه والقهوة العربية وبعض الفواكه الجافة (لوز) أحيانا، ثم تنطلق الاحتفالات بإنشاد جماعي تقوم به فرق مختصة تردد مدائح نبوية، وتخلو هذه المظاهر الاحتفالية من أي رقص أو آلات موسيقية باستثناء الدفوف، ويجري كل شيء بحضور كبار الشيوخ والعلماء بما يرافقهم من وقار وهدوء.
يقوم هؤلاء العلماء والشيوخ خلال فترات استراحة المنشدين بإلقاء دروس ومواعظ دينية تحث على الالتزام بالقيم الدينية ومحاسن الأخلاق والحفاظ على وحدة الصف الإسلامي، ويظل الجمهور طيلة أطوار الحفل هادئا ومحافظا على سكونه، حيث تقتصر مشاركته على ترديد الدعاء الجماعي الذي يختتم به الحفل ثم يتفرق الحاضرون.
هذه الضوابط الصارمة لحفلات الموالد التي تجري داخل المساجد، لا تمنع وجود مظاهر أخرى للاحتفال، حيث تقول الدراسة إن بعض الذين يحضرونها يفعلون ذلك بدافع الاستماع فقط، وليس حرصا على سماع مواعظ الشيوخ والعلماء.
وتستدل الدراسة على ذلك بكون أشرطة الفيديو التي توثق هذه الحفلات تباع بعد ذلك في أقراص مضغوطة وقد اقتطعت منها فقرات الدروس والمواعظ. وتسجل الدراسة وجود بعض الموالد الجديدة التي رخصت لها السلطات السورية في العام 2007 في الهواء الطلق بعيدا عن المساجد، حيث يجري الاقتصار على المظاهر الاحتفالية من قبيل عروض الدراويش، فيما يكون الحاضرون أكثر تحررا، بحيث يستطيعون مشاطرة المنشدين متعتهم عبر التلويح بالأيدي وترديد الأناشيد..
وتسجّل هذه الدراسة الأكاديمية استمرار صراع خفي بين الاحتفالات الرسمية الصارمة التي تسمح بها السلطات السورية داخل المساجد، وبين المظاهر الاحتفالية الشعبية من قبيل “خميس المشايخ” في منطقة حمص، وهي المظاهر التي منعتها السلطات البعثية الصارمة في سوريا حرصا منها على تنميط المجتمع وتوحيده.
وعلى الرغم من هذه الخلافات الدفينة، فإن الدراسة تنتهي في خاتمتها إلى أن الاحتفالات الخاصة بالمولد النبوي تظل وسيلة للدعوة إلى الطريق السوي في الإسلام، والحث على وحدة المسلمين من خلال تذكرهم الجماعي لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره “الشخصية المؤسسة” للدين الإسلامي.
المصدر : الجزيزة