الحدث بريس.
لكل مدينة معالم ومآثر تميزها، ومدينة لابلاطا، عاصمة إقليم بينوس أيريس، لا تشكل الاستثناء، ولكن ميزة هذه المدينة التي أنشئت من عدم في ظرف أربع سنوات، هي الطريقة التي صممت بها قبل 136 عاما.
ولعل أكثر ما يثير اهتمام الباحثين في مجال العمران، هو أن مدينة لابلاطا التي أسسها داردو روتشا، حاكم إقليم بوينوس أيريس، تم تصور جميع تفاصيلها وبناياتها وهندستها وشوارعها ضمن تصميم مربع الشكل تكلف بإنجازه المهندس المعماري، ذو الأصول الفرنسية، بيدرو بونوا.
هي مدينة اجتمع فيها ما تفرق في غيرها، إذ أن تصميم شوارعها الواسعة تم على شكل خطوط مائلة تتقاطع فيما بينها لتسهل الولوج إلى وسط المدينة، كما أن لابلاطا راهنت منذ تأسيسها سنة 1882 لتكون الحدائق والمنتزهات في كل ركن من شوارعها، ناهيك عن كونها مقصدا لطلبة العلم من مختلف دول أمريكا اللاتينية والعالم نظرا لشهرة جامعاتها ومعاهدها، كما تضم أحد أكبر متاحف العلوم الطبيعية في القارة.
فإذا كان من الطبيعي أن تبدأ نشأة المدن تدريجيا ثم ما تلبث أن تتوسع شيئا فشيئا، فإن الحال غير ذلك، بالنسبة لمدينة لابلاطا التي بنيت دفعة واحدة وفي زمن قياسي، وهي من المدن القليلة في العالم التي تمتلك هذه الخاصية، وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي ما السر وراء وجود قصور ومباني حكومية وشوارع ومسارح أكبر حجما من التي كانت وقتئذ تتوفر عليها العاصمة بوينوس أيريس نفسها؟.
وفي رأي روبين بيسي، المهندس المعماري والمؤرخ الارجنتيني، فإن ذلك يجد تفسيره في كون مؤسسها داردو روتشا، أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد فأسس مدينة جديرة بأن تكون عاصمة إقليم بيونوس أيريس، الذي كان حاكما له، ولكن أيضا لحاجة في نفسه، حيث كان يتوق ليصبح يوما ما رئيسا للأرجنتين، فتكون لابلاطا مؤهلة لتصير عاصمة للبلاد.
ويردف قائلا، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن أهل المدينة يفخرون بأن لابلاطا فريدة من نوعها، فهي التي رسمت على الورق قبل مباشرة عملية التشييد، على الرغم من أن هناك من يعيب عليها أنها مدينة حرمت من “الطفولة” لكونها ولدت “كبيرة” ولم تخضع لعمليات التوسع العمراني والتأهيل الحضري وغير ذلك من مراحل تطور المدينة.
فمدينة لابالاطا عندما تم تدشينها لم تكن هناك مدينة في العالم تتجاوزها من حيث الحداثة باستثناء واشنطن العاصمة الأمريكية، يقول روبين بيسي قبل أن يضيف أنه في العام 1880 تمكنت لا بلاطا من أن تحصل على ميدالتين ذهبيتين في المعرض الدولي لباريس كأفضل تصميم للمدينة.
ويرى المؤرخ الارجنتيني أن هذه المدينة ،الخامسة من حيث الكثافة السكانية بعد بوينوس أيريس، وقرطبة وروساريو ومندوزا مازالت إلى اليوم تحتفظ بروح انفتاحها وأناقتها وديمقراطيتها واستطاعت بفضل ساحاتها أن تخلق فضاءات عمومية يلتئم فيها الناس، الذين بوسعهم أن يقصدوا الساحات مشيا على الاقدام، على عكس برازيليا التي، وإن كانت تشترك مع لابلاطا في النشأة من عدم، إلا أنها مدينة مترامية الأطراف ما يجعل التجوال في شوارعها من المهام الصعبة.
وتدين لا بلاطا، التي كان يطلق عليها في السابق ريفادافيا أو بوينوس أيريس الجديدة، في تسميتها الحالية للكاتب الكبير خوسي هيرنانديث صاحب مؤلف “مارتين فييرو”، وهي المدينة التي وصف الكاتب الكوبي خوسي مارتي مدارسها بكونها قصورا.
ويتابع بيسي بالقول إنه ” إذا كان يتم حاليا الحديث عن التوجهات العمرانية الجديدة وعن المدينة التي تراعي البعد الاندماجي والمنصف، فإن لابلاطا تنبري لتكون نموذجا في هذا المجال على الرغم من انها تأسست منذ ما يزيد عن قرن ونحو أربعة عقود”.
ومن جهتها تقول سوسانا سكوريانت، المسؤولة عن متحف داردو روتشا، إن المدينة تجسد بحق حلم مؤسسها الذي أراد لها أن تكون مدينة المستقبل، وذلك بشهادة الخبراء والباحثين المتخصصين الذين نستقبلهم في المتحف، الذي يحتفظ بكل ما يحيل على الحياة اليومية التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر وكذا بجزء هام من ذاكرة هذه المدينة.
وتحكي أن روتشا الذي كان يعشق أن يكسب الرهانات، ارتأى يوما أن يخوض تحديا جديدا تمثل في تشيد مقر إقامة له في لابلاطا، عوض الانتقال كل يوم من وإلى بوينوس أيريس، وذلك في ظرف أربعين يوما، وقد نجح في هذا الرهان، كما نجح في رهان تأسيس لابلاطا.
أما عمدة المدينة، خوليو غارو فيعتبر أن لابلاطا المدينة التي حلم بها الحاكم داردو روتشا استطاعت إلى اليوم أن تحتضن الجميع، مبرزا أن حلم روتشا يتعين أن يستمر ولذلك فإن السلطات أطلقت مشاريع وبرامج تبتغي تحقيقها في أفق 2030 لاستمرار شعلة المدينة متقدة وليستمر الحلم في غد أفضل.
صحيح أن روتشا عندما كان يعمل على تشييد لابلاطا، كان قد بيت النية بأن يجعلها عاصمة الارجنتين إن هو أصبح رئيسا للبلاد، لكن حلم الرئاسة لم يتحقق ليظل عزاؤه أنه أسس مدينة من أهم مدن الارجنتين وأمريكا اللاتينية.. لتنطبق عليه القاعدة القائلة: ما لا يدرك كله لا يترك جله.