أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن بروكسيل لن تتهاون في فرض قوانينها الرقمية على كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، من دون أدنى اعتبار لجنسية هذه الشركات أو لهوية قادتها التنفيذيين.
هذه الرسالة، التي حملت في طياتها لهجة حازمة موجهة تحديداً إلى شركات مثل ميتا، آبل، إكس (تويتر سابقاً) وتيك توك، تعكس صلابة الاتحاد في مواجهة تغوّل المنصات الرقمية وتأثيرها المتزايد على الفضاء العمومي الأوروبي.
فون دير لاين، وفي مقابلة مع موقع “بوليتيكو”، شددت على أن الاتحاد الأوروبي “يطبق القوانين بعدل وشفافية”، مشيرة إلى أن الأولوية القصوى تتمثل في “حماية الناس”، لا في مجاملة الشركات الكبرى أو مراعاة مصالحها العابرة للحدود.
هذا الموقف يعكس فلسفة جديدة للحوكمة الرقمية الأوروبية، ترتكز على مبدأ السيادة الرقمية واستعادة السيطرة على ما يُنشر، ويُباع، ويُستعمل على أراضي القارة العجوز.
وتندرج هذه التصريحات ضمن سياق قانوني وتنظيمي مشحون، حيث دخل قانون الأسواق الرقمية (DMA) وقانون الخدمات الرقمية (DSA) حيز التنفيذ، وهما قانونان يفرضان التزامات صارمة على ما تسميه بروكسيل “حراس البوابة الرقمية”، أي الشركات التي تتحكم في مفاتيح الوصول إلى الخدمات الرقمية الأساسية.
و بموجب هذه القوانين، يُطلب من هذه الشركات الشفافية في خوارزمياتها، والحد من الممارسات الاحتكارية، ورفع المحتوى غير القانوني أو الضار دون تأخير.
و رغم موجة الطعون التي رفعتها بعض هذه الشركات أمام القضاء الأوروبي، تصر المفوضية على أن المسألة لا تتعلق بمضايقة مستهدفة لشركات أمريكية أو آسيوية، بل بإرساء توازن جديد بين الحقوق الرقمية للمستخدمين وسلطة المنصات.
فالاتحاد الأوروبي، بخلاف نماذج تنظيمية أكثر تراخياً، يسعى إلى تأسيس نموذج “رقمي إنساني”، يضع المواطن في قلب السياسة الرقمية، وليس مجرد مستهلك أو مادة خام لتحليل البيانات.
تثير هذه الإجراءات حفيظة بعض العواصم، خصوصاً واشنطن، التي تعتبر أن القوانين الأوروبية تمس بمصالح شركاتها العملاقة وتُقوّض ريادتها العالمية.
غير أن بروكسيل تردّ على هذه الانتقادات بتأكيد أن السيادة الرقمية لا تقل أهمية عن السيادة العسكرية أو الاقتصادية، وأن حماية الديمقراطيات الأوروبية من تغوّل الخوارزميات، ونزيف البيانات، وخطر التضليل الرقمي، هي معركة لا تقل شأناً عن باقي المعارك الاستراتيجية.
بهذا، يبدو أن أوروبا قررت أخيراً أن تتوقف عن لعب دور التابع في الحرب الرقمية، وأن تبدأ في رسم قواعد اللعبة بما يخدم مصالح مجتمعاتها وقيمها، ولو كلفها الأمر مواجهة صريحة مع عمالقة وادي السيليكون.