بعد أشهر من التراجع التنظيمي، خرج حزب العدالة والتنمية الأربعاء الماضي بندوة صحفية رافقتها ضجة إعلامية لافتة، سواء في المنابر المستقلة أو الرسمية، في سياق التحضيرات لمؤتمره الوطني التاسع. هذه الندوة، التي اختار الحزب من خلالها إعادة تثبيت حضوره في النقاش العمومي، لا تبدو مجرد محطة تنظيمية داخلية، بل رسالة سياسية واضحة: البيجيدي لم يمت بعد، وهو عائد لمحاولة استعادة المبادرة، ولو من موقع المعارضة.
من تأطير الأزمات الاجتماعية المرتبطة بالأسعار والحريات، إلى إعادة تشغيل آلته الدعوية والسياسية في المدن، يتحرك الحزب بهدوء مدروس نحو ما يمكن تسميته بـ”التموقع الشعبي الجديد”، متكئاً على سردية مزدوجة: الاعتراف بالأخطاء، مقابل استعادة دور “صوت المجتمع”. المفارقة أن هذه العودة لا تحمل أدوات جديدة، بل تكاد تُعيد إنتاج نفس الخطاب الذي كان يردده الحزب قبل 2011: حديث عن التوازن، عن المرجعية الإسلامية، عن الإصلاح من الداخل، وعن المظلومية في مواجهة قوى التحكم. لكن السياق تغيّر. فالجمهور الذي كان يتفاعل مع هذا الخطاب قبل عشر سنوات، أصبح أكثر تشككاً، وأكثر وعياً بالمفارقة بين الأقوال والأفعال.
الرهان الرئيسي لحزب العدالة والتنمية حالياً هو استعادة جزء من قاعدته الانتخابية في المدن المتوسطة والصغيرة، حيث لا تزال له امتدادات تنظيمية. ويحاول فعل ذلك من خلال خطاب مزدوج: تأطير النقمة الاجتماعية، وتقديم نفسه كـ”بديل أخلاقي” لحكومة الأثرياء. في ندوته الصحفية الأخيرة، لم يتردد الحزب في توجيه سهام النقد المباشر لحزب التجمع الوطني للأحرار، متهماً إياه بالفشل في تدبير الشأن العام، وبالارتهان لمصالح ضيقة تتعارض مع الوعود التي قُدمت للناخبين. كما وجّه رسائل واضحة للاتحاد الاشتراكي، متهماً إياه بالتحول إلى ملحق وظيفي داخل منظومة الحكم، فاقد لروحه المعارضة التي كان يدّعيها.
هذه النبرة النقدية تعكس محاولة الحزب استرجاع زمام المبادرة، لكنه لا يزال محاصَراً بتناقضات خطابه: فكيف ينتقد السياسات التي ساهم في صياغتها؟ وكيف يدّعي تمثيل الشعب بعد أن خذله انتخابيًا؟ إنها معركة معقدة بين استرجاع الثقة وتجاوز الذاكرة القريبة. الندوة الأخيرة ليست مجرد تذكير بوجود الحزب، بل مؤشر على تحوّل تكتيكي في أدائه السياسي، عنوانه “العودة من الهامش”، دون كسر علني مع تجربة الحكم. بمهاجمته لحزب الأحرار والاتحاد الاشتراكي، يفتح البيجيدي جبهة جديدة لتحرير خطابه من عقدة السلطة السابقة، متقمصًا دور المراقب الأخلاقي من خارج النسق.
لكن التحدي الأساسي يظل في مدى قدرته على ترجمة هذا الخطاب إلى مشروع بديل مقنع، يعيد له جاذبيته السابقة وسط جيل جديد أكثر تشككًا. فهل يكون المؤتمر التاسع لحظة انبعاث سياسي، أم مجرد حدث تنظيمي آخر في طريق التآكل البطيء.