بعد أن حطت ملحمة كأس العام أوزارها واكتملت صورتها الأنيقة غير المسبوقة، حق لنا ـ نحن المغاربة ـ أن نتأمل في الإنجاز الرائع للفريق الوطني بقيادة مدربه المتألق؛ ذلك أن هذه النسخة من هذه المنافسات العالمية سجلت بصمات لن ينساها التاريخ، وتجاوزت كونها منافسات رياضية إلى دلالات عميقة على المستويات الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية، مما يجعل حصيلتها غنية غنى هذه المستويات، وثمارها متنوعة تنوع تلك الدلالات.
وفي هذا الصدد، استرعت انتباهي واختمرت في ذهني عدد من الإشارات والمعاني الظاهرة والباطنة، التي جسدها المدرب وليد في تعاطيه مع مجريات المنافسات، إما عبر خطابه الشفوي في الندوات الصحفية أو في توجيهاته لأعضاء الفريق أو في إجراءاته العملية؛ وقد حاولت التقاط بعض منها لاستثمارها في حفز الأداء الناجح للشباب في مساراتهم الدراسية والتكوينية والمهنية والحياتية، أقدمها كما يأتي:
* البعد القصدي أساس للحافزية: كل نجاح يبدأ حلما؛
لقد ظلت عبارة : ” ديروا النية” للمدرب وليد محط إعجاب وتأمل وتحليل، و شكلت مدخلا ذكيا لتهيئة اللاعبين نفسيا وخلق الحافزية لديهم، والأكيد أن وليد يقصد مفهوما معنويا وعمليا للنية يربط السلوك والأداء بحلم جميل وهدف طموح، مستندا إلى صفاء السريرة وحسن التفاؤل والصدق والتوكل على الله؛ فتمكن من ربط أداء اللاعبين بسقف عال من الانتظارات، ووضع خلف ظهره كل التكهنات والهواجس والمخاوف، واستمر كذلك إلى آخر لحظة في المنافسات عندما وجه تفكير الفريق لهدف ما بعد المونديال المتمثل في نيل لقب إفريقيا واستشراف بطولة العالم المقبلة.
إن البعد القصدي بما يعنيه من عزم متجه نحو الفعل ومن نظرة رابحة بعيدة المدى، يعتبر أساسا ومنطلقا للأداء الناجح في مجالات الحياة المختلفة، لذا حري بشبابنا أن يعطي معنى لمساره ومجهوداته من خلال صياغتها وفق مشروع ورؤية استشرافية ترمي إلى تحقيق طموحات وأهداف محددة، وتربط واقع الشخص بمسقبل منشود، متحليا بروح الأمل وواقعية في التفكير.
* البعد الذاتي/ النفسي: الانطلاق من الذات أولا: أولى خطوات التقدم؛
وذلك من خلال معرفة المؤهلات والعمل على تحسينها ورصد نقط الضعف والعمل على تقليصها، فقد لاحظنا كيف نقب المدرب على المؤهلات الفردية للاعبين محاولا استثمارها لأقصى حد ممكن، واشتغل على الجانب النفسي لكل لاعب، لكي يوفر له مساحة ملائمة لتحقيق الذات ضمن المجموعة ويطلق كامل طاقاته وإمكاناته دون فرملة؛ ثم إنه ركز على العوامل الداخلية في تحليل النتائج ورفض الاختباء وراء عوامل خارجية من قبيل أخطاء التحكيم وغيرها.
إنها رسالة عميقة للشباب، ركزوا على ذواتكم وعواملكم الداخلية من أجل النجاح والتقدم في مساراتكم، لا تلتفتوا كثيرا لإشارات الإحباط واليأس، وهذا لا يعني طبعا إلغاء تأثيرات المحيط وإكراهاته، وإنما ينبغي عدم تقديم العوامل الخارجية على الداخلية في تحليل النتائج وتقويم الأداء واستشراف المستقبل.
* البعد العملي: لا نجاح دون تخطيط وعمل وجد ومثابرة؛
فقد اشتغل وليد على خطط محكمة وأجرى تداريب عملية واتخذ تدابير تقنية، ودفع الفريق دفعا لإعطاء أقصى جهده حسب الإمكانات المتوفرة، كما أنه أثار مسألة مهمة في تحليل نتائج المقابلتين الأخيرتين للمنتخب، وهي ضرورة العمل على التفاصيل العملية الصغيرة، والتي لم يتح له الوقت الكافي لحبكها ومعالجتها بالشكل المطلوب.
إن الأداء الناجح يتطلب تخطيطا والتزاما وانخراطا عمليا، ويتطلب الاشتغال على الأمور الكبيرة دون إغفال التفاصيل الصغيرة، فكم من مسار تعثر وهو قاب قوسين أو أدنى من التتويج بسبب مشكلات بسيطة لم يلتفت إليها أو تمت الاستهانة بها.
* البعد العلائقي: الأداء الناجح يعني علاقات نجاحة؛
من أبرز رسائل المنتخب الوطني المعبرة عن الهوية المغربية، ربط النجاح الفردي بالمحيط العلائقي، وهو بعد ثقافي واجتماعي تفاعل معه الجميع باستحسان وإشادة، وهكذا تابعنا كيف عبر المدرب واللاعبون عن ارتباطاتهم بأسرهم وأصدقائهم، وكيف جعلوا من ذلك منبعا للحماس والتحفيز والروح المعنوية العالية، وقد استثمر وليد هذا البعد بشكل ذكي جدا عندما خلق ورسخ أجواء أخوية عائلية بين أعضاء المنتخب تذوب معها كل الخلافات والمشاحنات، ويركز فيها كل فرد على تحقيق الهدف ضمن الأداء الجماعي، مما ساهم في خلق انسجام وتماسك مهم داخل الفريق.
وقد اجتهد المدرب أيما اجتهاد في رعاية الصف الداخلي وعينه على المشوار الذي ينتظر الفريق فيما بعد، عندما أصر في مقابلة الترتيب على إشراك اللاعبين الذين لم تتح لهم الفرصة، رغم ما قد يكون لذلك من تبعات تقنية وتكتيكية وبالتالي انعكاس على النتيجة.
إنها دلالات عميقة أيضا، دلالات ملهمة للشباب، مفادها أن الأداء الجيد رهين بالقدرة على نسج علاقات إيجابية، رهين بالقدرة على الاندماج في المحيط واستثمار فرصه، ومفادها أيضا أن المعنى الحقيق للنجاح الفردي يوجد في ارتباطه بجذوره وتربته المجتمعية، وهذا بطبيعة الحال يتطلب تنمية الكفايات التواصلية والاجتماعية للفرد وجعلها دعامة أساسية في النجاح الدراسي والمهني والحياتي.
تلكم، بعض العبر والدلالات التي جاءت من وحي متابعة ماتعة واستثنائية لأطوار مشاركة منتخبنا الوطني، عبر ودلالات تجعل الرياضة مصدر إلهام للارتقاء الفردي والمجتمعي؛
ولا أملك ختاما إلا أن أعبر عن كامل فخري واعتزازي بما قدمه هذا الفريق الملهم بقيادة مدربه الوطني المتفرد…، وأنا على يقين أن الثقة في الكفاءات الوطنية الغيورة وإتاحة الفرص لها مدخل حقيقي لصنع الإنجازات والرقي بمجتمعنا في شتى المجالات؛
شكرا لأسود الأطلس على أدائكم الرائع وإنجازكم التاريخي، وشكرا لوليد الركراكي على قيادته الحكيمة والمتبصرة، وشكرا لقطر على تنظيمها الراقي لأفضل نسخة من كأس العالم على الإطلاق، نسخة أثبتت ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أن كرة القدم ليست مجرد لعبة وأنها بريق أمل يمكن أن ينجح في ما عجزت فيه عتمة من الاخفاقات…؛
لقد رفعتهم رؤوسنا عاليا، وتذوقنا من خلالكم طعم الانتماء للوطن والأمة، ومنحتمونا طاقة نوعية للاعتزاز بالذات والثقة بالنفس، والأمل في غد أفضل لشبابنا ومجتمعاتنا على كل المستويات.