منذ مشاركته في الحكومة الحالية، وجد حزب الاستقلال نفسه في موقع لا يخلو من التعقيد، إذ يشكل جزءاً من أغلبية يقودها حزب التجمع الوطني للأحرار، وهي أغلبية تتميز بطابع تكنوقراطي-ليبرالي أكثر من كونها سياسية تقليدية. وبين التزامه بدوره في التحالف الحكومي، وسعيه للحفاظ على هويته التاريخية كحزب وطني اجتماعي، يبدو أن حزب الاستقلال يمر بلحظة مفصلية تُطرح فيها أسئلة جوهرية حول موقعه، خطابه، وهوية المشروع الذي يدافع عنه.
التحالف الثلاثي الذي يضم الأحرار، الأصالة والمعاصرة، والاستقلال، لم يُبن على تقاطب إيديولوجي أو تقارب برامجي واضح، بل جاء في سياق نتائج انتخابية فرضت منطق التحالف العددي والبراغماتي. وهنا، كان على حزب الاستقلال أن يجد لنفسه مكاناً في منظومة حكومية يطغى عليها منطق تدبير الدولة أكثر من منطق الترافع الاجتماعي الذي ميّز خطابه التقليدي، خصوصاً في الملفات المتعلقة بالتعليم والصحة والتشغيل. ورغم أن الحزب يتولى حقائب وزارية مهمة كالتجهيز والماء، فإن حضوره السياسي ظل باهتاً في لحظات حرجة، سواء في النقاش العمومي أو في مواجهة الانتقادات الشعبية للسياسات الحكومية. وهو ما يثير التساؤل: هل أصبح الحزب ممحوراً داخل التحالف الحكومي؟ أم أنه اختار طوعاً التواري خلف منطق “الانسجام الحكومي” على حساب دوره التاريخي كقوة اقتراحية ذات طابع اجتماعي واضح؟
من أبرز التحولات التي يعرفها حزب الاستقلال في هذه المرحلة، تراجع حدة خطابه الاجتماعي، وهو الذي طالما مثّل أحد أعمدته الأساسية. لم يعد الحزب، كما في السابق، يتصدر النقاشات المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، أو يبلور مواقف صريحة من الملفات المثيرة للجدل، مثل غلاء المعيشة أو تدهور الخدمات العمومية. وهذا الصمت أو الحذر في التعبير، يقرأه البعض كنوع من التماهي مع توجه الأحرار، الذي يقوم على تسويق خطاب الكفاءة والتدبير، أكثر من الترافع عن الفئات المتوسطة والهشة. لكن في المقابل، قد يرى البعض في هذا التراجع مؤشراً على نضج سياسي، واختياراً واعياً لتغليب الاستقرار الحكومي على النزعة المعارضة من الداخل. فالحزب، بعد سنوات من التذبذب في التموضع، يبدو كأنه اختار اللعب من داخل مؤسسات الدولة، حتى وإن كلّفه ذلك بعضاً من رمزيته التاريخية.
لا يمكن إنكار أن حزب الاستقلال يظهر اليوم وفاءً كبيراً لتحالفه الحكومي، وهو وفاء يُترجم في الانضباط السياسي داخل البرلمان، وعدم خوض صراعات هامشية مع مكوناته. لكن هذا الولاء نفسه يفتح الباب أمام سؤال الهوية: هل لا يزال الحزب يحمل مشروعاً سياسياً مستقلاً؟ أم أنه أصبح مجرد رقم في معادلة حكومية يقودها حزب آخر، بمقاربة مختلفة؟ أزمة الهوية التي يُلمَس صداها داخل قواعد الحزب وحتى بين بعض رموزه، تكمن في هذا التوازن الصعب بين البقاء في الحكم والمساهمة الفعالة في رسم معالم السياسات العمومية. فالحزب اليوم يبدو وكأنه عالق بين تاريخ ثقيل، وتحديات الحاضر، وإكراهات الشراكة الحكومية.
المستقبل القريب كفيل بالكشف عن قدرة حزب الاستقلال على تجديد نفسه من داخل الأغلبية، أو التحول تدريجياً إلى حزب تابع ضمن منظومة حكومية لا تسمح بهامش واسع للمبادرة. وإذا ما أراد الحزب الحفاظ على وزنه، فسيكون مطالباً بإعادة صياغة موقعه السياسي، عبر تجديد خطابه الاجتماعي، وبناء جسور أوضح مع قاعدته الشعبية، دون أن ينساق كلياً وراء منطق التدبير الصامت الذي تفرضه شراكة مع حزب الأحرار. إنها لحظة دقيقة في مسار حزب تاريخي، تختبر فيها السياسة قدرتها على التكيف دون أن تفقد روحها.