الحدث بريس: الصادق عمري علوي.
كان لحركة وضع النقط على الحروف والحركات – كما نريدها كذلك – دور في حماية اللغة العربية من الخطأ ، وتحصينها من بلواء اللحن ، والتحريف ، شكلا ومضمونا وكان لذلك الفعل دوافع وأسباب معروفة دونها علماء اللغة ، والمؤرخون …ولتلك الحادثة حسناتها .. تلاها ما تلاها من دراسات في التقعيد ، ووضع المعاجم ، وتتبع الألفاظ .. والكشف عن معاني الحروف ضمن السياقات ، والاستعمالات المختلفة ، وفقه اللغة .. إلى غير ذلك من العلوم المنبثقة عن دراسة النص القرآني ، والحديثي ، والشعري .
وكان للأرقام العربية ، والهندية والرومانية كرموز فضاء مكاني ، ومسار زمني للتداول كدال ومدلول ، وإحالة ووظيفة ضمن علوم الجبر والهندسة .. في تحديد الأقيسة ، والأبعاد ، وضبط الإنشاءات المعمارية ، و تركيب التشكيلات البسيطة والمعقدة ، وضبط المعاملات التجارية والمالية … فكانت الأرقام العربية ،واليونانية ، والرومانية ، والهندية … وكان للصفر العربي ( . النقطة أو 0 ) مقام معتبر بين الأرقام في استقامة علم الحساب عالميا.
ولم يقل أحد من العلماء العرب أو الفرس أو من الروم وخاصة في العصر العباسي الذي انتشرت فيه الترجمة واختلطت فيه الاجناس ضمن الإمبراطورية الاسلامية الممتدة من الشرق إلى الغرب بالتفوق العرقي للغة ما ، أو بعجز لغة ما ، – إلا العنصريين منهم – عن تحقيق الإفصاح عن نفسها أو قصورها عن التواصل ، أو التعبير عن مكنون العقل الإنساني ، وتأملاته ، و مجالات خياله ، و العالم الطبيعي الشاخص أمامه المسخر لتحقيق رغباته ، واحتياجاته الموجه لملاحظاته ، وتجاربه … بل اتفق الجميع أن الترجمة من وإلى لغة معينة هي المنفذ الوحيد للحصول على المعرفة ، والحكمة الكامنة في ثقافة وحضارة الأمم والشعوب و التي هي إثراء في الجملة للغة العربية واللغات المحلية ..عملا بحديث الرسول محمد صلى الله عليه ” الحكمة ضالة المؤمن … ” .
اتسع نطاق الترجمة من اليونانية ، والسوريانية ، والفارسية ، والهندية ، والرومانية ، والهندية … إلى العربية وانتشرت الجوامع و المكتبات الخاصة والعامة في العالم الاسلامي ، وملئت بشتى الكتب المجلوبة من مختلف الآفاق ، وكثرت حلقات العلم ، – وصف المؤرخون تلك الحركة العلمية ومنهم المقريزي و المقدسي ، سواء بالمشرق أو بالأندلس خلال القرن الرابع الهجري بشكل يثير الدهشة والاعجاب . ومن أراد معرفة ذلك فليبحث عبر محركات البحث بالانترنت و ليضع جملة تتضمن : Manuscrits arabes ليعرف أن للعرب في تلك الحركة العلمية ، والفكرية فضل على الحضارة الغربية فيما وصلت اليه من تفوق ، أو يضع اسم “ابن البناء المراكشي” مثلا ليعرف الحقيقة .. لا أن ينسب العجز في مواكبة التطور العلمي للغة العربية أو غيرها من اللغات الحية بدافع عنصري ، ينم عن عجز يكمن في ذاته هو، لعدم قدرته على التواصل بها أو إتقانها ، كمن يعتبر اللغة الانجليزية لغة القطط .
جمع العلماء العرب وغيرهم أصناف العلوم كما يجمع النمل حبات القمح ، بحب وشغف ساندهم في ذلك الخلفاء ، والوزراء ، والأغنياء … ، ووضعوا عليها خزنة وحفظة ، ووقفوا عليها الصروح المعمارية و الرجال و الأموال الطائلة ، ومن ضمن تلك الكتب نجد مصنفات ورسائل وأراجيز، و تعنى بطرق تربية و تعليم الناشئة وغرس حب العلم في نفوسهم ، حتى كان منهم النوابغ، وكتب التاريخ تعج بذلك لمن أراد الرجوع إليها .
لقد بدأ كل شيء بشكل خرافي ، كما بدأت الفلسفة في أول عهدها .. بدأ علم الفلك بالتنجيم ، وبدأ الطب بالوصفات الشعبية الشائعة، ثم تحول إلى بحث منظم ومقنن ، وعلم الكمياء كذلك ، ومعرفة القوانين التي تتركب بموجبها عناصر المادة ، وتبين مقدار العناصر الموجودة في الكون وعلاقتها البنيوية إلى غير ذلك وعلم الجغرافيا بدأ بالرحلات الخرافية على ظهر العفاريت والمردة ، وبعده انتقل إلى ايدي صانعي السفن وجوابي البحار من العلماء الذين وضعوا الخرائط ، وعرفوا بقاع المعمور ، ولا زالت خريطة الادريسي كمخطوطة ، وغيرها من الخرائط شاهدة على ذلك .
ونتيجة لتلك الحركة العلمية والثقافية استفاد معجم اللغة العربية ، بشكل باهر ، واغتنى معجمها ورصيدها ، فكانت بحق سند الأروبيين في نهضتهم الثقافية والعلمية ، لحمل مشعل الحضارة الانسانية إلى يومنا هذا – وإن كان لبعضم دوافع دينية القصد منها تحقيق الغلبة ، والقهر والاستغلال.
وليس تراجع أهل اللغة العربية اليوم دليل على ضعف لغتهم ، أو قدح في مواكبتها للتطور الحاصل في شتى المجالات العلمية والمعرفية فهناك اليوم العديد من المراكز الثقافية والعلمية التي تعنى بإعداد البحوث والدراسات و تقديم البرامج العلمية الوثائقية ، الناطقة باللغة العربية تبين وبما لايدع مجالا للشك أن هذه اللغة تواكب التطور العلمي والتقني حتى بالنسبة للصناعات الدقيقة .
أكبر دليل على ذلك ما نشاهده اليوم من برامج معدة بإتقان ، عبر الجزيرة الوثائقية ، والناشيونال جيوغرافيك المتخصصتان ، وما تبثه قنوات دولية أخرى خلال برامجها ، دون أن ننسى أن نوابغ العرب في أوطانهم وقع لهم ماوقع للغة العربية من تهميش مثل ما طال العقول الذكية المهاجرة … المتواجدة اليوم من خيرة الشباب عبر العالم يساهمون في تقدم الحضارة الانسانية في الطب والفلك والرياضيات والاختراعات الدقيقة ، ضمن أرقى الجامعات ومراكز البحوث الدولية .
وبما أن اللغة الرسمية للمغرب الأقصى بالتعبير القديم ومعها اللغة الامازيغية والحسانية تعتبر من مكونات الهوية والثقافة الوطنية للمغاربة ، بنص الدستور فإن تلقي المعارف والعلوم بأي لغة كانت لايعتبر محوا لتاريخ الأجداد ، ولا للعادات والتقاليد ، أو لأية هوية أو أصالة مفترضة ، ولاتقويضا لبنية لغوية معينة ، أو استلابا للشخصية بمنطق المؤامرة .
فالمغربي مغربي في أي بقعة من العالم له مايميزه ، وجوده الاجتماعي ، و رصيده الثقافي والعلمي يحقق البعد الانساني للعلاقات الدولية ” كسفير” لبلده في إطار الحوار الحضاري الذي تمليه ضرورة التثاقف دون الذوبان في الآخر ، أو التموضع المفضي إلى الاغتراب الكلي للذات المغربية داخل دوامة الآلة الجهنمية للرأسمالية .
لنفرض أننا لقنا ابناءنا ودرسناهم اللغة اليابانية أو الكورية ، أو الروسية ، كلغات ماذا سيحدث ؟ هل ذلك يعد خسارة في حق مستقبل التلميذ،وللمنظومةالتعليمية والتربوية ككل ؟ ونحن نعلم تركيز هذه الدول على السلوك والانضباط والاحترام المتبادل بالمؤسسات التعليمية ، قبل تلقي العلم بالنسبة للمراحل التعليمية التي يجتازها الطالب .
نتحدث اليوم عن من الأولى بالتقديم كلغات موازية للغات الوطنية هل الإنجليزية أم الفرنسية ؟ ومنا من يقول أن اللغة الفرنسية لغة المستعمر ،واستمرارها في التواجد بيننا يدل على خضوع مؤسساتنا وتفكيرنا الكلي لمنطق املاءاته وتأبيد لاستحواذ شركاته على الخيرات والثروات ، وبما أنها تذكرنا بالماضي المظلم للسلوك الاستعماري فيجب الإجهاز على لغة موليير ، وتغيير الوجهة لتبني اللغة الانجليزية كلغة علمية عالمية .
هذا يتعلق فقط بمنطق التفكير الإنتقائي لمحاولة التخلص من الماضي الأليم الغير المبرر من طرف الآخر ، هذا الأخير المطالب بتقديم الاعتذار عن انتهاكاته التي طالت البلاد والعباد فترة الاستعمار ، وبنى عليها رفاهيته ، وتفوقه إلى الآن.
إنه جانب من ذاكرة شعب لايستسيغ النسيان .. ويلصق كل شيئ باللغات هل من المعقول أن نلصق بلغة ما تخلفنا وإخفاقنا ؟ إن القائم بإذاية لغته وإذانتها الجماعية ، هو الرجل الأروبي ” أو الكاوبوي ” ماوراء “بحر الظلمات ” بالتعبير الجغرافي القديم بالنسبة لمقوض حضارة ” الانكا والاسطيك ” لأنه لم يتبنى تعاليم المسيح ، وتخطى القيم الصحيحة للإنجيل ، كما أنه لم يأخذ مسافة عقلانية كافية لما استفاده من علوم العرب ، ومعارفهم وثقافتهم وعقيدتهم التي تحمل في مضمونها القيم التي دعا إليها المسيح عيسى عليه السلام وسعى ضدا على رسالته إلى الاستحواذ العسكري ، والسيطرة الفكرية ، والاستعباد … وهناك من يتساءل منا لماذا يقدم الانسان الأوروبي علب الشكولاتة ، و الأقلام الملونة ، والمواد الطبية والهدايا للأطفال العرب والأفارقة ، وقد يبني الكنائس بموازاة مع العمل الخيري ، وفي الوجه البشع الآخر يلتهم الثروات برا وبحرا … ؟!
أليس هذا هو التناقض الصارخ مع تعاليم المسيح ؟ بعكس “النجاشي” الذي طبق تعاليم المسيح في حق أناس نالهم الظلم ، والقصة معروفة في كتب التاريخ .
وعلى هذا الأساس أعتقد أن مسألة اختيار لغة التدريس ، تتعلق بالارادة السياسية للمسؤولين عن الشأن اللغوي بالمغرب والتي يجب أن تخضع لمنطق موضوعي يراعي الموقع الجغرافي للمغرب ، وعلاقاته الدولية ، وعمقه الافريقي ، وارتباطه بالعالم العربي عكس “وجهة النظر اللغوية العنصرية ” وأعتقد جازما أن النبوغ المغربي في الاسهام في بناء الحضارة الإنسانية لاتحده الحدود الوهمية ، ولا العنصرية . فالملك الحكيم الحسن الثاني طيب الله ثراه ، شبه المغرب بالشجرة جذورها في إفريقيا ، وأغصانها في أروبا .