الحدث بريس : متابعة
حل بالمغرب، كما حل بالعالم كله، وباء كورونا المستجد، المعروف بكوفيد 19. ذلك الفايروس التاجي الذي وُلِد في إقليم ووهان الصيني، وانتشر كالهواء في العالم بأسره، يفتك برئتي ضحاياه، ويصيبهم بنوبات بسبب ضيف النفَس، وصعوبة التنفس، ويجعلهم يسعلون سعالاً حاداً، وتشتد حمَّاهم، ويتعبون تعباً تاماً، ويشعرون بوجع شديد، وسيلان كبير في الأنف، والتهاب الحلق. أضرار مَهولة يُلحقها بصحة من يفترسهم بملامسة المريض، فرذاذُه رصاص ينقل الملايين من الفيروسات الملكية. كلها ترتدي تيجاناً. مملكة جيشها ملوك. تغزو أرض الإنسان، وتسقط الآلاف في أيام قليلة. قد تقتل المئات في يوم واحد. سريعة في ميدان الحرب. لم يتوصل الإنسان، بكل ذكائه، سوى لتاكتيك دفاعي: “الابتعاد الاجتماعي”.
حاصرتنا مملكة كورونا في توسعاتها الاستعمارية. أسقطت امبراطوريات من الأموال. أوقفت المدارس. أربكت السياسيين. أزعجت الخبراء. صارت جيوش الإنسان تفرض على الشعوب البقاء في البيوت. مدن تعج بملايين البشر صارت فارغة كالموت. اختفى الضجيج. اشتاق الإنسان لروتين يومه الذي كان بالأمس غير راضٍ به، ساخطاً عليه. استعادت الطبيعةُ بعضاً من سكينتها.
في المغرب، أفواج من اليائسين، المحبَطين، العاطلين عن العمل، أو المعطَّلون، المنتهَكة حقوقهم، الذين يشعرون أن كرامتهم تُهان، كانوا، بالأمس القريب جداً، يقولون: “افتحوا الحدود. نريد أن نهاجر هذا البلد البئيس”.
وصاروا اليوم ينشرون ويتشاركون مطلباً شعبياً يقول: “أغلقوا الحدود”.
وفي الأمس القريب أيضاً، كانت أفواج أخرى تسخر من احتجاجات طلبة الطب، ومهن التمريض والصيدليين، وينعتونهم بنعوت لا تليق بمقام فئة مثقفة، ويقولون، في ما يدوِّنون من تدوينات: “يجب على رجال الأمن أن يُربُّوا هؤلاء الصبيان”.
وصاروا اليوم يَروْن هؤلاء لا ينامون، ولا يذوقون طعماً للراحة، يسارعون الزمن، لينقذوا من أصابتهم الجيوش الغازية. يتشاركون نصائح الأطباء، وتعليماتهم الطبية الدفاعية ضد الغازي الملكي. أدركوا أخيراً أن الطبيبَ والممرضَ سبيلُ نجاتنا وأمننا.
ليس هذا ما حصل فقط، ففي الأمس كذلك، كانت فئة ثالثةٌ تتلذذ بالاستهانة بالأستاذ والمعلم. يجعلونهم عجينة يصنعون منها طرائفَ وتشكيلات ساخرةً. لا يرون منهم سوى حالة شاذة لأستاذ عنيف، أو مغتصب، أو طاغيةٍ، لكن عيونهم تتعامى عن الألوف ممن ذابوا كالشموع لتضئ طريق الملايين من الذين صاروا اليوم ما صاروا عليه. ليسوا وحدهم من أوصلهم إلى تلك المقامات الاجتماعية، لكنهم أناروا العقُولَ، أو هكذا ينبغي أن يفعلوا.
جيوش كورونا دمرت المدارسَ، وجعلتها خرابات لا حياة فيها. أرغمت تعليم العالم على نهج التعلم عن بعد. الإنسان متطور. أبدع تكنولوجيا تواصل مبهرة. لكنها دفاعات مهترئةٌ أمام الملكات الشرسات.
تلك الفئة الآن ترى شقاء الأستاذ، فكل أسرة سترعى أولادها بنفسها إلى إشعار آخر، لا أحد يعرف مداه، فباتت الأسر تدرك ما معنى أن يقضي أبناؤهم وبناتهم جل وقتهم في المدرسة، يتعلمون ويتكونون، ويتحمَّل الأستاذ والمعلم شغاباتهم ووشوشاتهم، وهم عشرات في غرفة واحدة.
كم هو قاسٍ أن يحاصرنا جيش من الملوك الباسلة في حربها، فقد جعلت الجرائد تمتلئ، في بلدان كإيطاليا، بصور الضحايا تنعوهم. وأجبرت الجميع -هناك- على توديع أحبابهم في قلوبه، فلن يروهم، وسيدفون دون أن يذرفوا عليهم دموعهم. سيبكون في منازلهم، والعسكر وحدهم يتولوْن دفن من رحل بلا قبلة في الجبين، ولا صلاة، ولا قداس، ولا نظرة أخيرة.
إن الحصار الذي أحاطت كورونا الإنسانَ بأشواكه لم يعهده إنسان التكنولوجيا، والعلوم الدقيقة. وقد يمتد حتى نتعلم الكثير من الدروس. لكنه، طال أم قصُر، لن ينتصر، فالإنسان يتسيَّد الأرض، ويستعمرها بإحكام.