اختار رئيس «حكومة جنون الأسعار» عزيز أخنوش إخفاء الحقيقة عن المغاربة في الوقت الذي تحيَّز النعم ميارة رئيس مجلس المستشارين والكاتب العام لـ «الاتحاد العام للشغالين» «وهو استقلالي من الأغلبية الحكومية»، للهجوم على الحكومة، حيث قال إن «المغاربة لا يريدون ضبط الأسعار في التلفزيون، وإنما على أرض الواقع حتى يحسوا بها، مطالبا الحكومة بإجراءات عملية في القريب العاجل». بل إن الناطق الرسمي باسم الحكومة، وعلى عكس التوجه الإنكاري لرئيسه، أقر بأن التدابير الحكومية لم تفلح في الحد من ارتفاع الأسعار. وقال: «يبدو أن مشكلة الأسعار مسألة أعقد بكثير مما نتصور».
إن هذا التخبط الحكومي يكشف، كما يتضح، عن عجز فاضح وخطير لدى «حكومة الكفاءات» التي ادعت أنها جاءت لـ «إنقاذ الاقتصاد المغربي من ورطة العصر»، وأنها تملك من المؤهلات «المقاولاتية» ما يسمح لها بإخراج المغاربة من الأزمة، وأنها حكومة «الرفاه» و«العيش الكريم»، وليس حكومة «التقشف» و«الحزام المشدود» ما دام يترأسها مقاول ثري و«ناجح»، وله دراية بعالم المال والأعمال، ويعرف من أن تؤتى الثروة.
لم تترك حكومة «الكلام المعسول»، أي فرصة لإعلان استقوائها بأغلبيتها الضاربة والكاسحة من أجل تنزيل إجراءاتها وبرامجها، وذلك في غياب أي تنازع حقيقي من الأقلية قد يعطل هذه الإجراءات. غير أن «منطقة الراحة» التي اختارت هذه الحكومة الإقامة فيها انقلبت عليها وجعلتها في مواجهة مباشرة مع المواطنين، إذ لم تفلح تدابيرها، منذ مطلع العام الجاري، في تهدئة جنون الأسعار، حيث أكدت التقارير الرسمية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط أن المؤشر الرئيسي للأثمان عند الاستهلاك، سجل خلال شهر فبراير 2023، ارتفاعا بـ 1.7 في المائة بالمقارنة مع الشهر السابق. وقد نتج هذا الارتفاع عن تزايد الرقم الاستدلالي للمواد الغذائية بـ 9. 3 في المائة واستقرار الرقم الاستدلالي للمواد غير الغذائية.
وهمت ارتفاعات المواد الغذائية المسجلة ما بين شهري يناير وفبراير 2023 على الخصوص أثمان الخضر بـ 17,8 في المائة والفواكه بـ 5,7 في المائة واللحوم بـ 4,3 في المائة والحليب والجبن والبيض بـ 2,3 في المائة والزيوت والذهنيات بـ 1,3 في المائة والقهوة والشاي والكاكاو بـ 0,5 في المائة والمياه المعدنية والمشروبات المنعشة وعصير الفواكه والخضر بـ 0,3 في المائة. والأدهى من ذلك أن المندوب السامي للتخطيط قال، ردا على تصريحات رئيس الحكومة، إنه يجب الاعتراف أولا بأن هناك حاجة كبيرة إلى أن تعرف الفلاحة بالمغرب «ثورة حقيقية لتغيير نظام الإنتاج، والعمل سريعا لتحقيق السيادة الغذائية، وإنتاج ما نستهلكه أولا، مع تحقيق أقصى قدر ممكن من التقدم التقني والتكنولوجي لتحسين مردودية الإنتاج». وهنا يطرح السؤال بخصوص جدوى المخطط الأخضر الذي كان يرعاه عزيز أخنوش، رئيس الحكومة الحالي حينما كان وزيرا للفلاحة، والذي تؤكد كل المؤشرات فشله الذريع في توطين الأمن الغذائي للبلاد. إذ لم يحقق هذا المخطط «ثورة في القطاع الفلاحي»، كما تم التسويق لذلك، رغم الإمكانات المهمة التي رصدتها الدولة له، من قبيل «توفير العقار، الدعم المالي..». وهذا ما كشف عنه تقرير «أية آفاق للتعبية الغذائية للمغرب بحلول عام 2025؟»، حيث انتقدت المندوبية السامية للتخطيط تركيز «المخطط الأخضر» على رفع صادرات الخضر والفواكه، على حساب تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني في المواد الأساسية «الحبوب، الزيوت ..»، ما جعل السوق المحلية عرضةً لتقلبات الأسعار دوليا. كما أظهر المخطط قصوره عن توفير الأمن الغذائي للمغاربة.
وقد دعا التقرير إلى مراجعة جذرية للمخطط الذي لم يراع المخاطر البيئية والمائية. وحذّر من أزمة جفاف في المنظور القريب، مع الارتفاع المتزايد في منسوب استنزاف الفلاحة المغربية للمياه (89%)، في وقت يشهد تراجعا مهولا في المخزون المائي للمملكة، نتيجة تعاقب سنوات الجفاف بفعل التغيرات المناخية، فالحرص على الاستجابة لطلبات الأسواق الأوروبية، بإنتاج زراعات تستزف المياه «الحوامض، البطيخ الأحمر، الأفوكادو ..» كانت كلفته التفريط في الأمن الغذائي والمائي للمملكة، حتى شاعت بين المغاربة، مع بداية إنتاج «الدلاح»، مقولة «حان موسم تصدير المياه المغربية إلى الأسواق الأوروبية»، بعد متابعتهم وقائع عطش مئات هكتارات من الأراضي، بسبب اختيارات فلاحية غير مناسبة.
يتبين من كل ذلك أن حكومة أخنوش تستحق، وباقتدار كبير، لقب «حكومة سعار الأسعار»، أو حكومة «تلبية حاجيات بلدان الاتحاد الأوروبي»، أو «حكومة إلقاء اللوم على الحرب الروسية الأوكرانية» أو «حكومة المحروقات»، وهو ما يكشق أن أفق «الأمن الاجتماعي» لا يبشر بخير، خصوصا أن الحكومة عاجزة «وقد أعلنت عن ذلك» عن فعل أي شيء أمام غلاء الأسعار، وصارت تتفرج على المضاربات مكبلة الأيدي، فضلا عن تنصلها من كل التزاماتها، مع عدم الزيادة في الأجور والتهميش والحكرة التي دبت في أوصال المواطنين المغاربة، وبدأت تهدد بانفجار حقيقي يمكنه أن يؤدي لا قدر الله إلى وضع غير مسبوق، خاصة أن الغلاء طال العديد من المواد الأساسية، بالإضافة إلى انكماش الدخل الأسري الناجم عن تراجع العديد من الأنشطة الاقتصادية، والكساد غير المسبوق الذي ضرب قطاعات حيوية تعيش منها عشرات الآلاف من الأسر، كالسياحة والتجارة والخدمات..
فهل ستملك حكومة «المحروقات» الجرأة اللازمة من أجل إعلان عدم قدرتها على مواجهة زحف الغلاء؟ هل تملك شجاعة كشف حقيقة الأوضاع كاملة أمام المغاربة الذين سنتظرهم شوط طويل من حرائق التضخم وغلاء الأسعار؟ هل بوسع أخنوش أن يتخلى عن «كبرياء المقاول» ويقدم استقالته ويرجع المفاتيح إلى أصحابها، فاسحا المجال أمام «الكفاءات» التي لديها القدرة والكفاءة والقابلية لمواجهة التحديات الآنية والقادمة المطروحة أمام المغرب؟