يعيش المغرب اليوم تحوّلاً بنيوياً في علاقة الشباب بالسياسة، يكاد يكون من أعمق التحولات التي عرفها المشهد الحزبي منذ الاستقلال. فجيل اليوم لم يعد يرى في الأحزاب السياسية امتداداً لتاريخه أو لحلمه الجماعي، بل بات يتعامل معها كأجسام غريبة عن واقعه، منتهية الصلاحية، وعاجزة عن التعبير عن طموحاته. لا يتعلق الأمر فقط بانخفاض نسب المشاركة أو ضعف الانخراط، بل بانفصال رمزي أعمق: جيل بلا ذاكرة حزبية، وبلا روابط وجدانية مع المؤسسات الوسيطة التي شكلت، لسنوات طويلة، العمود الفقري للتماسك السياسي والاجتماعي.
هذا الانفصال لا يعني بالضرورة عزوفاً عن الشأن العام، بل هو تعبير عن ميلاد وعي سياسي جديد، فرداني في جوهره، رقمي في وسائله، وأفقي في تمثلاته. شباب اليوم لا يثق في الشعارات التي ترفعها النخب الحزبية، ولا في المساطر التنظيمية التي تصوغ بها قراراتها، ولا في نوايا الفاعلين الذين يتصدرون المشهد باسم “التمثيل الديمقراطي”. لقد استُهلكت لغة الالتزام، وفُقد أثر الرموز، وانطفأت جاذبية “الزعامة”، لتحل محلها قيم الاستقلالية، والرفض، والبحث عن التأثير المباشر.
تشير المعطيات المتوفرة إلى أن الغالبية الساحقة من الشباب المغربي تضع الأحزاب السياسية في ذيل هرم الثقة. فالتحقيقات الميدانية، كدراسة معهد بروميثيوس، تظهر أن 86% من الشباب لا يثقون في الفاعلين الحزبيين، بينما توجه النسبة الأكبر منهم بوصلتها نحو العمل الجمعوي أو الترافع الرقمي أو الإنتاج الثقافي والفني. هذه المعطيات لا تفيد فقط في تشخيص الأزمة، بل تؤكد أن السياسة لم تختفِ من حياة الشباب، بل أعادت تشكيل نفسها خارج قواعد اللعبة الكلاسيكية.
يكشف هذا التحول عن مفارقة عميقة: الدولة، التي راهنت تاريخياً على الأحزاب لضبط المجال السياسي، تجد نفسها اليوم أمام جيل لا يعترف بهذه الوساطة، ويطالب بعقد جديد، لا يقوم على التمثيل، بل على الفعالية. جيل يريد أن يرى الأثر لا الوعود، ويسائل السياسة كخدمة لا كأيديولوجيا، ويُقوّم الأداء لا الخطاب. إنه انتقال من المواطن المنتمي إلى المواطن المتطلب، ومن الناخب المُؤطّر إلى الفاعل الرقمي المتحرر من الانتماءات.
هذا الواقع لا يخلو من مخاطر، أهمها الانجراف نحو الشعبوية، أو الوقوع في الاستلاب الثقافي والسياسي أمام نماذج استهلاكية عابرة للحدود. كما لا يمكن إغفال التحديات المرتبطة بضعف التأطير، وتشتت المبادرات، وغياب البدائل المؤسسية التي تواكب هذا الوعي الجديد. ولكن رغم هذه التحديات، فإن الرهان ليس في إعادة إنتاج نفس البنى الحزبية المتهالكة، بل في التفكير في كيف يمكن تجديد السياسة نفسها لتستوعب هذا التحول، وتحول دون أن يتحول إلى قطيعة دائمة.
إن ما نعيشه اليوم ليس فقط أزمة مؤسسات، بل لحظة انتقالية في الوعي السياسي المغربي، عنوانها الأبرز: لم يعد الشباب ينتظر من الأحزاب أن تصوغ مستقبله، بل أصبح يصنعه بنفسه، خارج دوائر الشرعية القديمة، وبأدوات جديدة، تحرر الخطاب من طقوسه، والفعل من قوالبه. وهو ما يستوجب من النخب السياسية، إن أرادت البقاء، أن تتعلم كيف تنصت، لا كيف تخطب. كيف تتغير، لا كيف تتشبث بماضيها. فالشباب لا يحتاج إلى من يقوده، بل إلى من يفتح له المسارات، ويعترف بشرعيته كصاحب قرار، لا كموضوع تأطير.
وهنا، يصبح سؤال تجديد السياسة في المغرب مرادفاً لسؤال تجديد الحقل الحزبي برمّته، ليس فقط على مستوى الوجوه أو البرامج، بل في عمق تصور العلاقة بين الفرد والمؤسسة، بين التعبير والانتماء، بين المبادرة والتمثيل. فإما أن تعيد السياسة المغربية اكتشاف شبابها، أو أنها ستفقد شرعيتها أمامه، إلى الأبد.