فمباشرة بعد اعتلائه عرش أسلافه الميامين، جعل صاحب الجلالة الملك محمد السادس من الأمازيغية جزءا مهما من الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالته، والتي ساهمت في رسم وجه المغرب الجديد، وفي تحقيق نهضة اجتماعية واقتصادية وحقوقية وثقافية يشهد بها العالم، مما مكنه من ولوج نادي الدول الرائدة قاريا ودوليا.
فمن ورش مدونة الأسرة التي غيرت وضعية المرأة المغربية رأسا على عقب، وأعطتها المكانة التي تستحقها داخل مجتمع يعرف دينامية سريعة، وتأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة الرامية إلى طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة بصفة نهائية، وورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الذي عمل منذ انطلاقته سنة 2005، على النهوض بالمستوى الاجتماعي للمغاربة، خاصة منهم الشباب والفئات الهشة، شكل رد الاعتبار للأمازيغية، كمكون من مكونات الهوية المغربية، أحد الأوراش الأولى التي دشنها جلالة الملك من أجل إرساء دولة الحق والقانون، وإنجاز المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي القائم على رد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية.
فبعد سنتين فقط من تولي جلالة الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وتفعيلا للبعد الثقافي للمفھوم الجدید للسلطة، قرر جلالته في خطاب ألقاه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية لعيد العرش المجيد سنة 2001، إحداث المعھد الملكي للثقافة الأمازیغیة، استجابة لحرصه السامي على تقویة دعائم الھویة الوطنية العریقة، واعتبارا منه لضرورة إعطاء دفعة جدیدة للثقافة الأمازیغیة، التي تشكل ثروة وطنیة، لتمكینھا من وسائل المحافظة علیھا والنھوض بھا وتنمیتھا.
وفي 17 أكتوبر من السنة ذاتها، ألقى جلالة الملك خطابا تاريخيا في منطقة أجدير بحضور مختلف الفعاليات الوطنية، جاء بمفهوم جديد للهوية الوطنية، وذلك “باعتبار الأمازيغية مُكوّنا أساسيا من مكونات الثقافة المغربية، وأن النهوض بها يعد مسؤولية وطنية”. ووضع جلالته طابعه الشريف على الظهير المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، المحدد لمهامه واختصاصاته ومجال اشتغاله، والتي تتجلى أساسا في إبداء الرأي لصاحب الجلالة حول التدابير التي من شأنها الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها.
ويشارك المعهد، بتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسسات المعنية، في تنفيذ السياسات التي يعتمدها جلالة الملك، من أجل إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية، وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي.
ومنذ ذلك الحين، انخرط المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بعد إرساء هياكله، في ورش تأهيل الأمازيغية لغة وثقافة، فكانت أولى المشاريع التي انخرط فيها، فتح نقاش حول اختيار حرف لكتابة الأمازيغية، انتهى بمصادقة جلالة الملك محمد السادس على اعتماد حرف تيفيناغ، لتنتقل المعركة إلى حوسبة هذا الحرف الأصيل، الذي استخدمه الأمازيغ منذ عصور ما قبل الميلاد، مما أثمر إنجاز نظام التقييس “يونيكود”، وترتيب الحروف وكذا لوحة المفاتيح، هذه المعايير الثلاث التي شكلت منعطفا تاريخيا في مسار اللغة والثقافة الأمازيغيتين.
وفور حسم معركة الحرف، انكبت المؤسسة، التي تضم خبراء وباحثين في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، على معيرة اللغة الأمازيغية وتهيئتها وتنميط خطها ووضع القواعد الإملائية والنحوية الخاصة بها، من أجل إدماجها في التعليم والإعلام وفي مختلف المجالات الحيوية.
ففي ميدان التعليم، تم إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية بشكل لم يسبق له مثيل، إذ راكمت في فترة وجيزة مكتسبات مهمة في عدة مجالات، كالتهيئة اللغوية، وإنتاج الكتب المدرسية والحوامل البيداغوجية والديداكتيكية وتأهيل الأطر التربوية، وذلك بموجب الشراكة التي تربط مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مع وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني منذ 2003، ورغم بعض الصعوبات التي تعتري عملية الإدماج هذه، إلا أن بلادنا تمكنت من تحقيق العديد من الإنجازات في مجال تدريس اللغة الأمازيغية.
أما على مستوى الإعلام، فقد تعززت الإنجازات التي تمت في هذا المجال منذ نهاية القرن الماضي، فمن “نشرة اللهجات”، وإذاعة أمازيغية محدودة البث في الزمان والمكان، استفادت اللغة والثقافة الأمازيغيتين من مساحات شاسعة في المشهد السمعي البصري الوطني.
وفي هذا السياق، لم يقتصر حضور الأمازيغية في نشرة واحدة للأخبار بالقناة الأولى، بل تمت إضافة نشرة إخبارية باللغة الأمازيغية في القناة الثانية (2M)، وكذا برمجة عدة برامج باللغة الأمازيغية أو حول الأمازيغية في القناتين الوطنيتين. وبهذا أصبح حضور الأمازيغية في القطب العمومي منظما، تحكمه ضوابط قانونية يؤطرها دفتر تحملات مضبوط. وقد توجت هذه الطفرة النوعية والكمية بإنشاء قناة خاصة باللغة والثقافة الأمازيغيتين (القناة الثامنة) سنة 2010، انتقلت بالإعلام الأمازيغي إلى عالم الاحتراف والمهنية، وأضحت تنافس باقي القنوات التلفزيونية وطنيا وجهويا.
إلى جانب ذلك، بدأت الأمازيغية بعد خطاب أجدير، تأخذ، تدريجيا، مكانها الطبيعي في الفضاء العمومي، فأًصبح حرف تيفيناغ حاضرا في واجهات بعض المؤسسات، وكذا في علامات التشوير بالطرقات ومختلف الأمكنة العمومية بصفة عامة. كما أًصبح الأمازيغ يخلدون بعض المناسبات بشكل دوري، كتنظيم أنشطة فكرية وثقافية بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة “إيض إيناير”.
وتتويجا لكل ما سبق ذكره، وفي سياق التحولات الجوهرية التي تعرفها بلادنا من خلال انخراط السياسات العمومية في سيرورة النهوض بحقوق الإنسان، تم الإقرار بالهوية المتعددة كمرتكز أساسي لدستور المملكة الحالي، الذي أطره الخطاب الملكي السامي ليوم التاسع من مارس 2011، الذي جعل من ملف الأمازيغية مرتكزا من المرتكزات السبعة التي بني عليها ورش الإصلاح الدستوري.
وهكذا جاء ترسيم الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية، وهو ما أكد أن إرادة جلالة الملك محمد السادس في ترسيخ دولة الحق والقانون تتسع لجميع مكونات المجتمع، وأنها تجاوزت، بشكل كبير، جميع المطالب والانتظارات في هذا الصدد، وبرهن على أن المملكة اختارت أن تحتفي بالأمازيغية، كمكون أساسي من مكونات الهوية الوطنية، بطريقة راقية وحضارية بعيدة عن كل مظاهر الفلكلرة والمزايدات.
ومن هذا المنطلق، ولترسيخ هذا المسار، ليس أمام الفرق البرلمانية، سواء الأغلبية أو المعارضة، إلا العمل بنفس النهج في صياغة القانون التنظيمي الخاص بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، بشكل يستجيب لتطلعات المجتمع، ويساير هذه الروح التقدمية التي تؤسس لهوية وطنية متعددة، ويساهم في بناء مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي، كما أراده صاحب الجلالة الملك محمد السادس.