تنظم جمعية “إبداع وتواصل” فعاليات الملتقى الأول للفنانين العصاميين تحت شعار “الحق في الإبـداع” تكريما للفنان الراحل محمد القاسمي ما بين 23 و 31 يناير الجاري بـرواق “اخميسة” التابع للمركب الثقافي سيدي بليوط، الدار البيضاء.
حول هذه التظاهرة الفنية، تقول زهرة ألكو، رئيسة الجمعية المنظمة : ” إن هذا الملتقى الفني، الأول من نوعه بالمغرب، مهدى إلى المبدعين العصاميين.فهو أرضية عامة تؤكد مدى تضحية الفنانين العصاميين للحاق بركب ذوي الكفايات والمعارف العملية. لقد حان الوقت للتذكير بالقولة النيرة لميلان كونديرا : »ليست المعارف الرحبة هي التي تميز العصامي عن المتمدرس، بل الدرجات المختلفة للحيوية والثقة بالنفس « .
لقد أصبح الفنانون العصاميون اليوم قاعدة ذهبية واستثناء. فبيانهم هو : »كونوا عصاميين، ولا تنتظروا دروسا من الحياة « .
بكل تأكيد، إن العصامية هي الإرادة التي ستخلق الانسجام الداخلي لأرواحنا. فهذا الانسجام هو الذي شكل حياة المسار الإبداعي للفنان العصامي محمد القاسمي ، حيث الأثر الإبداعي يتجاوز الحدود بين التجريد والتشخيص.
لقد ارتأينا برسم الدورة الأولى الاحتفاء بذاكرته بوصفه من الفنانين العصاميين النموذجيين و الباحثين عن مسالك جديدة. فخارج عزلة فنه بمحترفه بالرباط، كان شخصية اجتماعية منخرطة في مصير بلدها: مناضل فعلي في مجال حقوق الإنسان بما فيها الحق في الإبداع “.
عصامية حديثـة.
بموازاة النظام التقليدي للتكوين والتمرس المهني خارج التمدرس يبرز نمط جديد من العصامية في ما وراء التمدرس ومسارات التأهيل.
إن مظاهر التجديد في المجتمع والعلوم والتكنولوجيا تفرض على كل واحد منا حاجة الحفاظ على سيرورة مستدامة من التكوين الذاتي، في حقول المعرفة والمعرفة العملية قيد التحول الكبير. يمكن لنا القول، بشكل أو بآخر، بأننا جميعا عصاميون بالنظر إلى التحديات الجديدة على مستوى المعرفة والمعرفة العملية التي نواجهها يوميا.
أحيانا، نجد وضعيات مأساوية وتمدرس معين، إذ إن شكل هذا الأخير التام والحديث لا يكفي كثيرا لتلبية جميع الحاجيات على نحو قطعي. نلاحظ قاعدة مشتركة في الحاجة إلى التحيين، والتكوين الذاتي، دون نسيان سيرورات محاربة الأمية والتمدرس في السياق الراهن لمجتمع المعلومة. حاجة وبالأحرى ضرورة ملحة تفرض ذاتها خاصة في الأنشطة الأكثر دقة – كما في مجال الطب- حيث يبدو نقص على مستوى التمدرس، وحيث تنضاف مخاطر اختبار غير محين لبعض المهن.
فاليري وج-م دو أندراد.
ذاكرة الفنان الراحل محمد القاسمي
اختار الفنان الراحل محمد القاسمي ( 1942-2003) ، هذا المبدع والمثقف التشكيل البصري والشعري ،أرضا متخيلة حيثما حل وارتحل، معتبرا المنجز الفني مجازا مرسلا يوحد بين مختلف الأجناس الإبداعية ومجالا خصبا واستبطانيا لتناسل الرموز والآثار شكلا ولونا وتنظيما وتناظما . ألسنا بصدد علاقة عمودية مع الفن والفكر يتوحد في ضيافتها المرئي واللا مرئي والمحسوس والمتعالي؟
ليس القاسمي فقط علامة بارزة في المشهد التشكيلي المعاصر بالمغرب، بل يعد فاتحة تجارب ما بعد الحداثة بكل مغامراتها البصرية ورؤاها النقدية: شهرزاد والحرب، أعلام منصوبة في مواجهة المحيط الأطلسي، من الصحراء الى الأطلسيات، شراكة إبداعية مع دباغي مراكش، مشاعل تنير دروب مدينة ليموج الفرنسية، مغارة الأزمنة الآتية، ذاكرة الجسد في طريق العبيد بالبنين، تنصيبات إحياء لذاكرة جون جونيه، منجرة فنية في مسرح عتيق بتركيا، تنصيبات ضد الدمار برواق «المنار» بالدارالبيضاء…الخ. ساهم الراحل في جعل اللوحة قصيدة بصرية، إيمانا منه بالتفاعل بين المكتوب والصوري كما تدل على ذلك لفظة الصورة في لسان العرب لابن منظور.
الراحل يتحدث من خلال أعماله التصويرية كما كتب الناقد الجمالي خليل المرابط. يتجاوز المعايير المتداولة على مستوى الأساليب والاتجاهات. تشهد لغته التشكيلية على جرأة كبيرة وعلى تمكن تقني وتحكم في محاورة الفضاءات المتعددة التي تتيح له «تحرير جسده». كان من السباقين في جعل محترفه منتدى مفتوحا للجمهور قصد ترسيخ ثقافة التبادل والحوار ودمقرطة الفن.
شكل هذا المدى المعرفي والإبداعي الفلسفة العامة لمشاركاته في مختلف البينالات الدولية،حيث تتوج مساره الفني بنيل جائزة المغرب الكبرى عام 1999، فالراحل لا حدود عنده بين العمل الفني والحياة الوجودية ولا قطيعة بين الالتزام التشكيلي والالتزام الاجتماعي والسياسي. فنان صحراء الذات بكل آثار حضورها وغيابها، يبقى القاسمي مهندس الأطياف وشاعر الشذرات المرئية التي تتغنى بكل ذاكراتنا الجماعية. على أثر بول كلي الذي أعلن أن الكتابة والتشكيل متجانسان ومتعالقان في الجوهر، ألف الراحل عدة كتب مرجعية: «صيف أبيض»، «كلام راحل»، «تجويفة الجسد»، «آثار وأحاديث» مع جليل بناني، «الظل المحمول» مع ألان غوريوس، مكناس المدينة التاريخية، حائك مراكش بالصويرة مع الشاعرالفرنسي جيمس ساكري (تصوير كريشيان رماد) ،«حيلة الحي»مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي. كل هذه الأعمال الأدبية والفنية تؤكد بأن الإبداع من منظور القاسمي طقس عبور بين الذات والآخر، بين المرئي واللامرئي، بين الحضور والغياب ، بين التذكر والنسيان. فالراحل كان متشبثا بملكة التخييل التي تزاوج بين الإدراك الذهني والإدراك الحسي مؤسسا لمشروعه الجمالي:«أنطولوجية الصورة» كعنوان بارز لجعل لغة التشكيل ذاكرة حية ومادة مركبة للفكر والتفكير وإبداعا رمزيا للوجود.
القاسمي لم تمت. إنك بيننا تلقننا درس تحويل الذاكرة الإنسانية إلى فضاء تأملي للحضور والغياب. فأنت صاحب التجربة الفنية الجسورة والممهورة بالرمزية التعبيرية وبالحيرة التي حدثنا عنها ابن عربي في مقام الإنسان العارف:«فالكامل من عظمت حيرته ودامت حسرته ولم ينل مقصوده» (الفتوحات المكية، ج2). إنها حيرة الباحثين عن معاني الوجود وحقائقه الغائبة. فهؤلاء الحائرون هم الذين يعتبرون أن جوهر الفن هو الشعر وجوهر الشعر هو الحقيقة. أذكر أن آخر عبارة رددها على مسامعي القاسمي :«لماذا سنخضع إلى سيطرة شكل تعبيري دائم؟كل مبدع ينجز اللوحة على مقاسه وكل إبداع هو صوت مؤلفه وصداه وجسده وذاكرته».القاسمي: لقد استوعبت حكمة هيراقليطس:«نحن لا نستحم في النهر مرتين».
عبد الله الشيخ(ناقد فني).