لم يعد الزمن في المغرب سنة 2025 يُقاس بالأيام أو السنين، بل باللحظات العابرة التي تلمع سريعاً قبل أن تخبو. في شوارع المدن الكبرى، كما في الأزقة الضيقة للقرى النائية، تسري ثقافة السرعة كعدوى صامتة، تعيد تشكيل العادات، والقيم، وحتى الأحلام. لم تعد السرعة مجرد استجابة لتغيرات تقنية أو اقتصادية، بل أصبحت نمط حياة، يقيس النجاح بالسرعة، ويزن العلاقات بمدة صلاحيتها القصيرة.
في هذا المشهد المتسارع، تبرز ثقافة الاستهلاك السريع ليس فقط كظاهرة اجتماعية، بل كتحول عميق في بنية الوعي الجماعي، يطرح أسئلة مقلقة حول معنى الاستقرار، والالتزام، والعيش المشترك في مغرب الغد.
يعيش المجتمع المغربي سنة 2025 تحت تأثيرات مركبة لثقافة الاستهلاك السريع، وهي ظاهرة لم تعد تقتصر على الجانب الاقتصادي أو الغذائي، بل تجاوزته إلى أنماط التفكير، والعلاقات الاجتماعية، ومفاهيم الهوية والانتماء. هذا التحول لم ينشأ فجأة، بل كان نتيجة تراكمات عميقة مرتبطة بمسار التحديث غير المكتمل، والتوسع الحضري غير المتوازن، وهيمنة التكنولوجيا الرقمية على الحياة اليومية.
في العمق، ثقافة الاستهلاك السريع تعبير عن علاقة جديدة بين الأفراد والزمن. فقد أصبح الزمن الفردي مجزأً ومشحوناً بلحظات متتالية من الإشباع الفوري، ما جعل الصبر، والانتظار، والالتزام، مفاهيم تبدو اليوم متجاوزة أو غير مجدية في نظر قطاعات واسعة من المجتمع. لم تعد قيمة الشيء تُقاس بمدى صلابته أو معناه، بل بسرعته في إشباع الحاجة الآنية، سواء تعلق الأمر بالطعام، أو بالمعرفة، أو حتى بالعلاقات الإنسانية.
المثال الأبرز على ذلك هو التحول في طبيعة الروابط الاجتماعية. العلاقات التي كانت في الماضي تُبنى على تراكم الثقة، وعلى مسار طويل من التفاعل الإنساني، أضحت اليوم علاقات سريعة الزوال، خاضعة لمنطق “الفائدة اللحظية”. شبكات التواصل الاجتماعي ساهمت في هذا التحول عبر خلق ثقافة “التمرير”، حيث يتم استبدال الأشخاص والأفكار بنفس سهولة استبدال الصور والمنشورات. النتيجة كانت علاقات أكثر هشاشة، ومجتمعاً يميل إلى الانسحاب من الالتزامات الطويلة الأمد.
الاقتصاد الاستهلاكي بدوره غذّى هذه النزعة بشكل نشط. الانتشار الواسع للوجبات السريعة وخدمات التوصيل المنزلي لم يكن فقط استجابة لحاجة عملية، بل ترسيخاً لنمط حياة يُمجد الحلول الفورية ويهمش كل ما يتطلب جهداً أو وقتاً. الأسواق التجارية الكبرى، المنصات الإلكترونية، والعروض الترويجية اللحظية، كلها تعمل ضمن منطق يحفز المستهلك على الاختيار السريع، على حساب التروي والتفكير النقدي.
ثقافة الاستهلاك السريع بالمغرب لا يمكن فهمها دون ربطها بالتحولات الاقتصادية الكبرى التي عرفها البلد. تفكك الطبقة الوسطى التقليدية، تفاقم البطالة، اتساع الفوارق الاجتماعية، كلها عوامل دفعت الأفراد إلى تبني استراتيجيات عيش قائمة على الاستفادة القصوى من اللحظة، باعتبار أن المستقبل يبدو أكثر غموضاً وأقل قابلية للتحكم فيه. في ظل هذه الظروف، تصبح السرعة شكلاً من أشكال التأقلم مع واقع غير مستقر، وليست مجرد موضة عابرة.
التحولات طالت أيضاً العلاقة مع الثقافة والمعرفة. المكتبات التي كانت فضاءات للتكوين البطيء والهادئ أصبحت شبه مهجورة، بينما صارت مقاطع الفيديو القصيرة التي تقدم “معلومة سريعة” هي المصدر الرئيسي للمعرفة عند فئات واسعة. هذا التحول أنتج نمطاً من التفكير السطحي، القائم على الاقتباس السريع دون تحليل عميق، مما يهدد بتراجع القدرات النقدية الضرورية لأي مشروع تنموي حقيقي.
الأمثلة كثيرة ومتناثرة على امتداد الجغرافيا المغربية. من الرباط إلى وجدة، ومن الدار البيضاء إلى مراكش، تتكرر مشاهد الأفراد المهووسين بالاستجابة الفورية لكل حاجة مادية أو رمزية. حتى الأحياء الشعبية، التي كانت إلى وقت قريب فضاءات للعيش المشترك البطيء والإيقاعي، أصبحت اليوم مساحات تتصارع فيها الإيقاعات السريعة، تحت تأثير الهواتف الذكية، وخدمات التوصيل، وأسواق الاستهلاك اللحظي.
في البوادي، ورغم بقاء بعض مظاهر الحياة التقليدية، بدأت ثقافة الاستهلاك السريع تشق طريقها تدريجياً، مدفوعة بانتشار وسائل الاتصال الحديثة، ورغبة الأجيال الجديدة في محاكاة أنماط الحياة الحضرية. غير أن هذا التحول غالباً ما يتم بطريقة مشوهة، حيث يتم استيراد مظاهر الحداثة الاستهلاكية دون أن يصاحبها تطور مماثل في البنيات التحتية أو في شروط العيش الكريم.
من منظور استشرافي، يبدو أن هذه الظاهرة مرشحة للتوسع أكثر خلال السنوات المقبلة، خصوصاً مع الطفرة المنتظرة للذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية بالمغرب. إلا أن هذا السيناريو يحمل في طياته مخاطر كبيرة على التماسك الاجتماعي، وعلى القدرة الجماعية للمغاربة على بناء مشاريع كبرى تحتاج إلى الصبر والتخطيط على المدى البعيد. التحدي المطروح هو كيف يمكن إعادة بناء ثقافة توازن بين حاجات العصر الحديث، ومتطلبات البناء العميق والمستدام؟
دون تدخل واعٍ من المؤسسات التربوية والثقافية، ومع استمرار منطق السوق وحده في صياغة الأذواق والعادات، سيكون من الصعب كبح جماح هذه الثقافة الجديدة. الحاجة تبدو ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة الاعتبار للقيم التي تحترم الزمن الطويل، مثل الاجتهاد، الالتزام، والوفاء، باعتبارها ضرورات وليست مجرد ترف أخلاقي.
إن ثقافة الاستهلاك السريع في المغرب ليست مجرد ظاهرة اجتماعية سطحية، بل مرآة عاكسة لتحولات أعمق في علاقة الإنسان المغربي بذاته، بمجتمعه، وبمستقبله. ولأنها كذلك، فإن التعامل معها يتطلب أكثر من مجرد نقد أخلاقي متسرع؛ يتطلب استراتيجيات شاملة تعيد تعريف معنى العيش المشترك، وأهمية الزمن في صياغة الهويات والمصائر.
في خضم هذا الإيقاع المتسارع الذي يلتهم الزمن والقيم معاً، يظل السؤال معلقاً: هل نحن مجرد مستهلكين لما تفرضه اللحظة، أم أننا قادرون، رغم كل شيء، على إعادة تعريف علاقتنا بالزمن والمعنى؟ ربما يكون التحدي الحقيقي لمغرب الغد ليس في أن يسبق الزمن، بل أن يمنحه من جديد وزنه الحقيقي، حتى لا يتحول العيش إلى مجرد سباق نحو لا شيء.