مع مطلع كل سنة تحتفل شعوب شمال إفريقيا قاطبة برأس السنة الأمازيغية الذي يوافق يوم 14 يناير من السنة الميلادية، وتعددت التسميات وطرق الاحتفال به من منطقة إلى أخرى، لكن الجوهر يبقى ثابتا وصامدا صمود نقوش تيفيناغ على صخور الصحراء الكبرى، فنجد من يطلق عليها تسمية “السنة الفلاحية” أو “السنة الفلاحية الشمسية” و “السنة العجمية”، أو “الناير” و “ايض سكاس” أو “إخف ن أسكاس” أو “أسكاس اماينو” أو “حاكوزة وغيرها.
تناسلت التسميات وتعددت لمقصود واحد، فالاحتفال معلوم و مشهود لكن أصل هذه السنة يطرح مع كل سنة جديدة العديد من التساؤلات والتأويلات، و أيضا الكثير من القيل و القال، بين مؤيد و معارض لترسيم هذا اليوم و جعله يوم عطلة مؤدى عنه، و هذه مساهمة بسيطة في الموضوع و هي دعوة إلى مزيد من البحث والتدقيق لتكوين صورة أكثر وضوحا.
- أصل السنة الأمازيغية
بين روايات عدة، يمكن الحديث في نظرنا المتواضع عن ثلاث فرضيات استطاعت أن تبرز بشكل أكبر، سنسعى لكشف بعض من أغوارها:
– أولا: يُرجع البعض أصل التأريخ للسنة الأمازيغية إلى سنة 950 قبل الميلاد التي تشير إلى تاريخ بداية حكم الملك الأمازيغي شيشنق أو شيشونغ لمصر وبالضبط الأسرة 22 و23، و هناك من يتحدث عن الأسرة 24. وتختلف الروايات في طريقة وصول الملك شيشنق/شيشونغ لسدة حكم الفراعنة (924/945 ق.م)، بين رواية ترى أن الأمازيغ الليبيين استطاعوا رد هجوم للفراعنة و الانتصار عليهم، وبالتالي الزحف نحو مصر و انتزاع الحكم، و رواية أخرى تقر بأسر فرعون مصر رمسيس الثاني لمجموعة من الليبيين الأمازيغ بعد معركة دارت بيهما. وكان من بين الأسرى طفل صغير أخذه معه إلى القصر وتكلف بتربيته و تعليمه فنون الحرب. و بعد أن كبر، عظم شأنه في الجيش و استطاع الوصول إلى أعلى المراتب، ما دفع فرعون مصر لتعيينه خلفا له بسبب عدم وجود وريث شرعي من الأسرة الحاكمة، إضافة الى رواية ثالثة تقر بزحف عدد من قبائل الليبو و المشاوش إلى مصر، استطاعوا اعتلاء مراتب مهمة الى ان تمكنوا من التربع على العرش وتكوين الأسرة الثانية والعشرين التي حكمت مصر قرابة القرنين، وهذه الرواية من المحتمل أن تكون الأصح.
– ثــانــيــــا: ارتباط السنة الأمازيغية بالتقويم اليولياني نسبة إلى يوليوز القيصر الروماني. ويسمى أيضا بالتقويم الروماني، و هذا التقويم، أي اليوليالي يزيد عن رأس السنة الميلادية ب 13 يوما، و التفسير التاريخي لهذا الارتباط راجع إلى أن شمال إفريقيا تم استعمارها من طرف الرومان من قبل.
– ثــــالــثــا: السنة الأمازيغية قديمة قدم الانسان الشمال الإفريقي، و هي سنة فلاحية بامتياز يرجع تاريخ الاحتفال بها لأكثر من 7000 سنة قبل الميلاد، سنة بداية ممارسة الإنسان الأمازيغي للفلاحة.
و التفسير الأقرب الى الصواب بجمع و يدمج الفرضيات الثلاث بدرجات متفاوثة. أولا نظرا لكون تاريخ ظهور الفلاحة بشمال إفريقيا، كما أشرت سابقا يرجع لأكثر من 7000 سنة قبل الميلاد، و ثانيا ربما أثناء التواجد الروماني بشمال إفريقيا أخذ منهم الأمازيغ التقويم الروماني القديم المسمى بالتقويم اليولياني الذي يزيد عن التقويم الميلادي/الكريكوري الحالي ب 13 يوما، اي يوم 14 يناير هو ما يوافق فاتح السنة الأمازيغية، و ثالثا اختيار تاريخ 950 قبل الميلاد، أي تاريخ اعتلاء شيشنق أو شيشونغ ( 945ق.م) حكم مصر كحدث تاريخي كبير ونقطة انطلاق رقمي، اختيار تقني من طرف السيد عمار النكادي المعروف ب “عمار الشاوي” الذي اصدر أول يومية أمازيغية سنة 1980، وعمل مناضلو “أكراو أمازيغ” على الاحتفال بالسنة الامازيغية باعتماد سنة 950ق.م كسنة محورية. لتعمم بعد ذلك عبر احتفالات الجمعيات الامازيغية بالدياسبورا ثم ببلدان شمال افريقيا، و هو ما يمكن اعتباره عنصرا مساعدا للتأريخ، و ليس كل التأريخ. فالممارسة سابقة، و مستمرة في الزمان و المكان.
و مما سبق نصل الى تفسير محكم نسبيا، بكون الاحتفال فلاحيا بالدرجة الأولى حيث يبتدئ بابتداء كل موسم فلاحي جديد، ثم 950 سنة ق.م كمعطى رقمي تقني لا غير، يؤرخ لبداية رمزية لا غير و لحدث تاريخي عرضي هام حسب واضعيه في تلك الظرفية، ثم استدخال عنصر التقويم اليوليالي باضافة 13 يوم على أيام السنة الميلادية، من خلال التواجد الروماني بشمال افريقيا آنذاك، مستفيدين من التطور الفلكي للغير، و هو أمر محبوب، خصوصا إن كان ما أخذ من الثقافات الأخرى لا يضر بالأصل و الجوهر، بل إن عنصر الحيوية مطلوب من أجل الاستمرارية و من أجل التطوير و مواكبة مستجدات العصر. فالتاريخ الإنساني هو تاريخ التمازج بين الحضارات و الأمازيغ لا يشكلون استثناء لهذه القاعدة. فليس عيبا أن يتم تطعيم الممارسة الأمازيغية بانجازات واكتشافات المجتمعات المحيطة بها.
و الأساسي هو أن التقويم الأمازيغي غير مرتبط بأي حدث ديني لأنه سابق للتقويمين الميلادي المسيحي والهجري الإسلامي. و كان يُحتفل به قبل ظهور الدين المسيحي و الإسلامي. و أيضا غير مرتبط جوهريا بحدث شيشونق. بل الأكيد أن الأمازيغ يحتفلون بالأرض، الأم المعطاء التي تجود عليهم بخيراتها و تحتضن نجاحاتهم وإخفاقاتهم، تعانق أفرحهم و تضمد اطراحهم.
- رأس السنة الأمازيغية و مطالب الإقرار
إن مطالب إقرار السنة الأمازيغية كيوم عطلة مؤدى عنه، تجد مشروعيتها فيما يلي:
– أولا: المشروعية التاريخية من خلال إنصاف التاريخ و الجغرافيا، و معهما الإنسان الشمال-إفريقي وحضارته الضاربة جذورها في عمق التاريخ. فلكل حيز جغرافي ومكان ارتباط هوياتي يميزه عن غيره، وبالتالي، فاستنادا إلى نتائج مجموعة من العلوم كالالكيورولوجيا، والأنثروبولوجي،ا والطبونيمية، وعلم الآثار، و علم الاجتماع، و الجغرافيا، وغيرها والتي أثبت علميا أن أقدم حضارة عمرت شمال أفريقيا هي حضارة الأمازيغ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد. و بالتالي فأرض شمال أفريقيا هي أرض أمازيغية و سكانها الأصليون هم الأمازيغ (أمازيغ تعني الإنسان النبيل و الحر). صحيح أنه بعد مرور قرون وبعد التمازج و التلاقح بين مختلف مكونات المجتمع، تم إفراز مجتمع متعدد الأعراق والأنساب. وهذا ما لا ننكره، و ليست لنا نية لنفعل ذلك، فهو معطى موجود و مؤشر إيجابي على أن الهوية الأمازيغية انطلاقا من المعيار الترابي-الثقافي هي مركز المخيال الجمعي و قلبه النابض، فهذا التعدد، تعتبر الأمازيغية وعاءه الجامع وصمام الأمان الدي لا محيد من الاعتراف به، بل و جعله فوق أي حسابات إيديولوجية أو سياسية مقيتة، فهي الأم التي أرضعت الجميع سكان أصليين و وافدين، و هي التربة و المأوى الذي كبر تحت كنفه الجميع.
– ثــانـيـا: المشروعية الدستورية من خلال ما جاء به دستور فاتح يوليو 2011 في الفصل الخامس منه، الذي أعطى للغة الأمازيغية صفة اللغة الرسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربي، مع الإشارة إلى أن تفعيل هذا الطابع الرسمي سيتم “وفق قانون تنظيمي يحدد مراحل و كيفيات إدماج اللغة الأمازيغية في مجال التعليم، و في مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، و ذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها”، وقد تمت مؤخرا المصادقة على هذا القانون التنظيمي رقم 26.16 بعد طول انتظار، وبعد رحلة مراطونية قاربت العقد من الزمن، يوم 12 شتنبر 2019، ثم صدوره بعد ذلك بالجريدة الرسمية يوم 26 شتنبر 2019 ليدخل حيز التنفيذ، و إقرار رأس السنة الأمازيغية كموروث ثقافي وحضاري يجد مشروعيته و أولويته انطلاقا مما جاء به القانون التنظيمي نفسه في المادة الثانية التي نصت على “حماية الموروث الثقافي و الحضاري الأمازيغي بمختلف تجلياته و مظاهره، و العمل على النهوض به و تثمينه…”.
– ثــالـثـا: المشروعية الإنسانية و الحقوقية من خلال تبني رؤية كونية و غير اختزالية لمفهوم حقوق الإنسان في مسألة التعامل مع القضية الأمازيغية، و ذلك يقتضي من مجموع مكونات الفعل السياسي والثقافي و لمدني وعموم المواطنين و المواطنات المغاربة، احترام مبادئ اتفاقية اليونسكو باعتبارها تقدم إطارا عاما توافقيا ينهي الصراع القائم، ويقدم أرضية جيدة للتعايش الثقافي من خلال ترسانة من المبادئ الموجهة أهمها : تساوي جميع الثقافات في الكرامة و في الجدارة بالاحترام، واحترام التنوع الثقافي بصفته ثروة نفيسة للأفراد و الجماعات، و الانتفاع العادل من الثقافة، و الانفتاح على الثقافات الأخرى، إضافة إلى مبدأ التوازن بين مختلف الثقافات”، كما أن إعلان برشلونة العالمي للحقوق اللغوية لسنة 1996 يمكن أن يكون إطارا مرجعيا يقدم إضافة نوعية لفهم أمثل للحقوق اللغوية والثقافية من خلال حثه على: “إبادة الإقصاء المتبادل وحق كل شخص في التحدث بلغته الأم، وفي التمتع بثقافته وتلقينها لذويه في المدرسة وفي المجتمع، و كذا بحقه في الولوج إلى الخدمات العمومية بواسطتها.. دون تدخلات قصدية أو قسرية”.
و في الختام كل الحب لهذه الأرض الكريمة التي آوتنا، وكل الاعتزاز بأجدادنا و كل الفخر بثقافتنا المنفتحة والحاضنة للجميع. هي مسؤولية تقع على عاتق الجميع أن نعمل يدا بيد على تطويرها و تنقيتها من أية شوائب إن وُجدت، فالجمود مصيره اللاوجود!
هي رسالة من الأجداد للأحفاد، يا بني قف شامخا متماسكا هي أمانة سلمتها الجذور للأغصان، فيا أوراق مع هبوب نسيم السنة الأمازيغية الجديدة 2970 تناثري و احملي الرسالة، رسالة حب و تعايش أبليغها كل بيت!