بعدما انطلقت أواخر فصل الشتاء للعام 2022، تحوّلت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى شبح يخيّم على سماء أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء الموالي، بفعل طول أمد الحرب وانتقالها من جبهات النار والحديد إلى جبهة الاقتصاد والطاقة، خاصة بعد انخفاض صبيب أنابيب الغاز الطبيعي من روسيا نحو أوروبا الغربية.
الخصاص الكبير في واردات الغاز، المادة الحيوية في إنتاج التدفئة خلال فصل الشتاء القارس، أعاد إلى الأذهان ارتباط الشتاء بالحروب الأوروبية الكبرى مع الإمبراطوريات الروسية (والسوفياتية)، فقد لعب فيها هذا الفصل المسلّح بالثلوج والجليد والبرد القارس، دورا حاسما في كبرى الحروب التي دارت بين الطرفين.
ويشكّل الغزوان الفرنسي (نابليون) والألماني (هتلر) لروسيا خلال القرنين الماضيين أحد العناصر المحددة للعقيدة الأمنية والعسكرية الروسية، والخلفية التاريخية الأولى في تعاملها مع جوارها الأوروبي الغربي، باعتباره كان سباقا في عدد من المرات إلى الغزو، مما يفسّر جزئيا شعور الريبة وعدم الثقة المهيمن على علاقة الطرفين.
كما يشترك قائدا الغزوتين الشهيرتين للأراضي الروسي (نابليون وهتلر)، في الأثر الحاسم للفصل المطير في تحديد مصيرهما السياسي والعسكري، إذ كان الرجلان قد حققا أمجادا كبرى وبسطا سيطرتهما شبه الكاملة على أوروبا الغربية، لتأتي الهزيمة في الأراضي الروسي وتنهي أحلامهما وتضع حدا مأساويا لحياتهما العسكرية، بفعل قسوة الشتاء والفخ الذي نصبه لهما الجليد والبرد القارس في بلاد القياصرة.
“نابليون”.. قائد الغزو الفرنسي الأول لبلاد القياصرة
يعود أول غزو أجنبي تعرّضت له روسيا في العصور الحديثة، إلى فرنسا التي بلغت قوتها العسكرية بعد الثورة الفرنسية ما جعلها تحلم ببسط سيطرتها الكاملة على أوروبا وروسيا.
فقد كانت فرنسا بداية القرن الـ19 عبارة عن إمبراطورية تمتد فوق أراضي فرنسا وبلجيكا وهولندا الحاليتين وإيطاليا وجزء من أراضي ألمانيا والنمسا، ووصل نفوذها إلى غاية الحدود الروسية شرقا. بل إن “الحروب النابليونية” الناجحة حوّلت فرنسا إلى حاكم فعلي لكامل أوروبا، فكان “نابليون بونابرت” يعقد التحالفات وينصب الملوك حتى في الدول التي لم يسيطر عليها مباشرة، باستثناء بريطانيا القوية بأسطولها العسكري البحري.
كان الإمبراطور الفرنسي “نابليون” يلعب على الحبلين الروسي والبريطاني، من أجل فرض نفسه مسيطرا أوحد على المجال الأوروبي، فكان يحاول استعمال أحد الطرفين ضد الآخر وإبرام الهدنة مع إحدى الجهتين للاستفراد بالأخرى، فحصل أن أبرمت فرنسا معاهدة مع روسيا القيصرية (معاهدة تيلسيت 1807)، وتقضي بانضمام روسيا إلى الحصار الشامل الذي فرضه “نابليون” على بريطانيا، رغم الأضرار الاقتصادية البليغة التي خلفها ذلك على روسيا.
رأى “نابليون” في روسيا حليفا طبيعيا لفرنسا لعدم وجود أي خلاف حدود بين الدولتين، ويعتبر كثير من المؤرخين أن الغزو العسكري نفسه الذي قام به الإمبراطور الفرنسي داخل روسيا، لم يكن يرمي إلا إلى حمل القيصر على التفاوض وتقديم تنازلات في ملفات إقليمية ودولية أخرى، أي تحييد روسيا لا احتلالها.
فسخ التحالف ورفض الخطوبة.. عوامل الحرب
لم يستمر تحمّل روسيا الانعكاسات الكبيرة لهذا الحلف طويلا، وسرعان ما قررت استئناف علاقاتها التجارية مع بريطانيا عام 1810، خاصة أن ضغوط وأطماع “نابليون” لم تتوقف، لا سيما بعد طلبه الزواج من أخت القيصر الروسي “ألكسندر”، بينما هو ملازم بسيط في الجيش الفرنسي لا تعترف له البورجوازية الأوروبية بالمكانة والوجاهة اللازمين للحكم. وأصبح خيار الحرب بالتدريج حتميا، خاصة بعد مواصلة “نابليون” حشد وتعزيز قواته في الجبهة الشرقية وفي بولندا تحديدا، محضرا لحرب كانت تبدو مؤجلة فقط.
كما كانت السويد واحدا من عناصر ارتفاع التوتر بين فرنسا وروسيا، فقد عمد الجيش الفرنسي إلى غزو منطقة بوميرانيا السويدية في إطار طموحاته التوسعية، مما حدا بالسويد إلى البحث عن الدعم الروسي وحصلت عليه بالفعل. كما جاءت اتفاقية بوخارست بين روسيا والإمبراطورية العثمانية، بما أنهى الحرب بينهما وقبول روسيا بشرط الانسحاب من الحلف مع فرنسا. كل ذلك جعل الظروف مهيأة للاصطدام الكبير بين إمبراطوريتي أوروبا الكبيرتين.[3]
“بعد نقاشات داخلية طويلة في الدولتين، وتقليب كل منهما لخيارات الهجوم والدفاع ووضع سيناريوهات خاصة بكل احتمال، جاءت لحظة الحسم بحلول العام 1812، وجاءت المبادرة من فرنسا، فوجّهت نحو 600 ألف من جنودها لغزو الأراضي الروسية في يونيو/حزيران 1812.
حرب الاستنزاف.. سقوط نابليون في فخ الشتاء القاتل
أمام التفوّق العسكري البيّن الذي كانت فرنسا تتمتع به أمام الجيش الروسي، اختار الروس أسلوب الأرض المحروقة والانسحاب التكتيكي، فكان يعمد إلى إحراق المدن والمحاصيل الزراعية قبل وصول القوات الفرنسية، وينسحب محافظا على قواته وحارما الفرنسيين من النصر الكاسح الذي يسعون إليه. وبعد قتال قصير في معركة بورودينو -حرصا على حماية معنويات الجيش الروسي، لكنه خلف خسائر كبيرة تقدّر بأكثر من 70 ألف قتيل من الجانبين-[4] تمكنت القوات الفرنسية بعد أسبوع واحد من دخول موسكو والسيطرة عليها ابتداء من 14 سبتمبر/أيلول 1812.
كان “نابليون” ينتظر التوصل بطلب التفاوض وإبرام السلام من طرف القيصر الروسي بمجرد سيطرة قواته على العاصمة الروسية، إلا أن الانتظار طال بالفرنسيين مع معاناتهم من الجوع والحرائق المتواصلة في محيط المدينة، مما اضطر الجيش الفرنسي إلى الانسحاب. وقد تولى المارشال “ميخائيل كوتوزوف” قيادة الجيش الروسي، وحافظ على سياسة الاستنزاف، رافضا منح الجيش الفرنسي فرصة المواجهة المباشرة، إلى أن اقترب فصل الشتاء، وهو الجندي الأكثر فتكا وفعالية في صفوف الجيش الروسي.
أصبح جيش “نابليون” بين فكي كماشة، الثلوج والجليد من جهة، ونيران المقاومة الروسية التي تلاحقه باستمرار حارمة إياه من المحاصيل والمؤن، ولم يكن الفرنسيون مستعدين لظروف الشتاء وهم الذين بدأوا حملتهم في بداية الصيف، وكانت درجة الحرارة تنخفض إلى ما دون 30 درجة تحت الصفر مسببة تجمّد أطراف الجنود، مما كان يؤدي إلى وفيات بأعداد كبيرة.
فرار الفرنسيين.. جيش القيصر يسقط الإمبراطور في عقر داره
كان الفرنسيون ينسحبون تدريجيا، بينما يتعقبهم الروس بحرب استنزاف وحرائق شاملة دون الدخول في معركة مباشرة، إلى أن وصل الفرنسيون نهر بريزينا، حينها اعتبر المارشال “ميخائيل كوتوزوف” أن الوقت حان للإجهاز على جيش “نابليون”، فكبّدهم خسائر فادحة. ومع مواصلة الجيش الفرنسي انسحابه ووصوله إلى شرق ليتوانيا، قرر “نابليون” الفرار نحو باريس لمنع حدوث انقلاب ضد حكمه، مكلفا أحد قادة جيشه بتولي زمام بقايا الجيش (نحو 112 ألف جندي فقط وصلوا أحياء إلى الحدود الغربية لروسيا).
لم تتوقف هزيمة فرنسا بوصول بقايا جيشها إلى الحدود الروسية، بل كانت للقيصر “ألكسندر” طموحات أخرى، فقد اعتبر الوقت مناسبا لمواصلة الزحف على أوروبا. ومتحالفا مع ملك بروسيا وإمبراطور النمسا، راح الجيش الروسي يزحف نحو فرنسا تدريجيا إلى أن وصل حدودها نهاية 1813. وحين كان مجموع جنود الجيش الفرنسي أقل من مئة ألف، لم يجد الحلف الثلاثي صعوبة في الوصول إلى باريس شهر مارس/آذار 1814، فرفعوا شرطا أساسيا هو عزل “نابليون” من الحكم قبل إبرام أي صلح، وهو ما وقع بالفعل، فقد تنازل عن الحكم لصالح عائلة البوربون، ليبرم معها القصير الروسي معاهدة الصلح وفقا لشروطه.
ورغم غزوه الدموي لروسيا وتسبّبه في مقتل ما يناهز ربع مليون روسي، فإن “نابليون” يتمتع بصورة لا بأس بها في روسيا. ويفسّر هذا الأمر باعتبارات ثقافية كانت تجعل النخبة الروسية معجبة بمساره البطولي وصعوده الكبير انطلاقا من أسفل السلم الاجتماعي. وقد استعاد “نابليون” قدرا من التقدير الذي كان الروس يخصونه به قبل الغزو، بعد نهايته الحزينة منفيا في جزيرة معزولة سنة 1821، بعد هزيمته مرة أخرى في آخر معاركه لمحاولة استرجاع أمجاده السياسية والعسكرية في أوروبا.
ويبقى “نابليون” شخصية مثيرة للإعجاب والتقدير في روسيا، رغم الجهد المبذول منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لتخليص الثقافة الروسية من بعض الأفكار التي كانت تصوره في هيئة ثائر ملهم للبلشفية الروسية وبطلا ملهما.
“أدولف هتلر”.. نزهة عسكرية لغزو الشرق السوفياتي
على غرار الغزو الفرنسي لروسيا مستهل القرن التاسع عشر، كان المستشار الألماني “أدولف هتلر” خلال الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن العشرين، يعتبر غزو وتركيع الاتحاد السوفياتي نزهة يرمي من خلالها إلى فرض الأمر الواقع على بريطانيا وإخضاعها لشروطه. أي أن روسيا لم تكن هدفا في حد ذاتها بقدر ما كانت في رأي قائد ألمانيا النازية ورقة شرقية ينبغي إسقاطها من يد الخصوم الغربيين.
وإلى جانب البعد السياسي والعسكري، كانت الواجهة الشرقية تمثل عمقا استراتيجيا مريحا في نظر “هتلر”، فكان يرمي إلى تأمين حاجياته من البترول والقمح المتوفرين في الأراضي الروسي والأوكرانية، وتموين جيشه بشكل مريح في مواجهة القوى الغربية. وكان الاتحاد السوفياتي يتبع سياسة مهادنة تجاه ألمانيا النازية، متجنبا إثارة عداوتها، وتجلى ذلك في عدم القيام بأي رد فعل بعد الغزو الألماني لمنطقة البلقان الحيوية بالنسبة للسوفيات. كما استمر تدفق البترول والمواد الغذائية بشكل منتظم من الاتحاد السوفياتي إلى ألمانيا إلى آخر يوم قبل الغزو النازي للأراضي السوفياتية.
يتعلّق الأمر بأكبر مواجهة عسكرية شهدتها الحرب العالمية الثانية، جنّدت لها ألمانيا ملايين الجنود (ثلاثة ملايين جندي ألماني، وقرابة 650 ألفا بين فنلنديين ورومانيين)، وكانت خلفيتها تحقيق أهداف دفينة في الفكر النازي منذ عشرينيات القرن الماضي، إذ كان تحطيم الإمبراطورية الشيوعية واحدا من الأحلام الأولى لألمانيا، مع ضم المجال الجغرافي لشرق أوروبا إلى أراضي ألمانيا واستيطانها بشكل دائم.
ولم تكن معاهدة عدم الاعتداء التي وقعها “هتلر” مع الاتحاد السوفياتي صيف العام 1939، إلا تكتيكا مشابها لما قام به “نابليون” قبل أكثر من قرن، أي تحييد الروس في انتظار حسم المعركة مع الجبهة الغربية بقيادة بريطانيا.
“خطة بربروسا”.. تقدم سريع في بداية الزحف الألماني
بعدما كان مقررا منتصف شهر مايو/أيار 1941، تأخر الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي بضعة أسابيع بفعل تعثر الغزو الألماني للبلقان. ورغم التحذيرات الأمريكية والبريطانية المتكررة للاتحاد السوفياتي، فإن السوفيات كانوا يشكون في إقدام “هتلر” بالفعل على التحرك شرقا.
في فجر يوم 22 يونيو/حزيران 1941، انطلق الزحف الألماني نحو الأراضي الروسية، وكان التقدم سريعا، فلم تواجه القوات النازية صعوبة كبيرة أمام القوات السوفياتية. وبعد عشرة أيام وجّه الزعيم السوفياتي “جوزيف ستالين” رسالة إلى الشعب يعلن من خلالها استعداده قبول الدعم الغربي في مواجهة ألمانيا، واختياره سياسة الأرض المحروقة لمنع الألمان من الاستفادة من المناطق التي يحتلونها، ثم اعتبر أن الشعب يدافع عن الوطن وليس عن النظام الشيوعي، تحقيقا للوحدة الوطنية.
في الواقع كان “هتلر” قد وقع في 18 ديسمبر/كانون الأول 1940 أمر الاستيلاء على القسم الأوروبي من الاتحاد السوفياتي، والمعروف باسم “خطة بربروسا” تكريما لاسم الامبراطور الروماني الشهير “فريدريك بربروسا”. وكانت الخطة تقضي باستعمال تكتيكات الحرب الخاطفة وإلحاق الهزيمة بالجيش السوفياتي خلال بضعة أشهر.
ورغم التكتم والسرية الكبيرين اللذين أحاطت بهما ألمانيا هذه الخطة، فإن المخابرات السوفياتية كانت تستشعر نيات ألمانيا غير الودية بعد الخطاب الذي ألقاه “هتلر” يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 1940 في قصر الرياضة بمناسبة تخريج 5 آلاف ضابط ألماني، وقال فيه إن من الظلم امتلاك 60 مليونا من الروس سدس مساحة الكرة الأرضية، بينما يتزاحم 90 مليون ألماني في قطعة صغيرة من الأرض.
“البلشفية ستنهار مثل بيت من الورق”
كان الأمر يتعلّق بأكثر من 3 ملايين جندي بين ألمان وحلفاء للألمان، انطلقوا نحو الأراضي السوفياتية في مهمة كانت تبدو قصيرة وخاطفة. وكان العقل المدبر للدعاية النازية الوزير “جوزيف غوبلز” يوفر الغطاء اللازم لنشر مثل هذا الاعتقاد بتسويقه لفكرة مفادها أن “البلشفية ستنهار مثل بيت من الورق”. وكان هذا الاعتقاد معززا بصور قريبة حينها، تظهر ضعف وفشل الجيش السوفياتي في مهام صغيرة مثل الحرب مع فنلندا شتاء 1939-1940.
معززا بأسلحته الفتاكة ومعنوياته المرتفعة بفضل الانتصارات المتتالية، كان الجيش الألماني يلتهم القوات السوفياتية بسرعة وشراهة، مجبرا القيادة السوفياتية على الدفع بقوات احتياطية غير جاهزة، مما ساعد في تقدم سريع لجيش “هتلر”. لكن ما لم يفكر فيه “هتلر” كما يجب هو عنصر اللوجستيك وخطوط الإمداد، وهو ما سيكون نقطة ضعف وسبب انهزام الجيش النازي.
الغرور النازي جعل هتلر يظن بأحقيته في غزو روسيا وما حولها
كانت أوكرانيا وما وراءها هدفا حيويا بالنسبة لـ”هتلر”، وتنسب إليه أوامر صارمة باحتلال هذه المنطقة كي لا يتعرض الألمان للتجويع كما حدث في الحرب العالمية الأولى، بينما كانت لينينغراد مهمة أيضا لقطع طرق الإمداد عبر ميناء مورمانسك عن القوات السوفياتية. لكن طول أمد الحرب إلى ما بعد صيف 1941، حول أنظار “هتلر” نحو موسكو، بهدف الإطاحة النهائية بالنظام السوفياتي، بعدما كان جنرالات الجيش الألماني يعولون على انهيار تلقائي للنظام مباشرة بعد انطلاق الغزو.[14]
فقد توقعت الخطة الألمانية الأصلية القضاء التام على الجيش السوفياتي خلال ثلاثة أشهر، أي فصل الصيف لعام 1941، لكن ما أحبط هذه التوقعات هو صمود ومقاومة الجنود السوفيات، وحسن تخطيط القيادة التي قامت بترحيل معامل صنع الأسلحة إلى الشرق الروسي، وحافظت على خطوط الإمداد الأساسية لقواتها. وكان “هتلر” قد وزّع قواته بين ثلاث فرق كبرى، تولت إحداها مهمة السيطرة على منطقة لينينغراد، وتوجهت الثانية نحو منطقة موسكو، بينما تولت الثالثة منطقة كييف والقوقاز.
ستالينغراد.. حصار ينهك الآلة العسكرية الألمانية
بعد انتصارات البداية، وجد الجيش الألماني نفسه يغوص تدريجيا في وحل المقاومة الروسية، وفي بداية شهر ديسمبر/كانون الأول 1941، كان الجنود الألمان على أبواب العاصمة الروسية موسكو، على بعد 30 كيلومترا تقريبا، وكانت الخطط جاهزة للهجوم على المدينة ومحاصرتها من جميع الجهات، ثم إسقاطها. لكن فجأة انخفضت درجة الحرارة من حوالي خمس درجات، إلى ما دون 30 درجة تحت الصفر، بينما الجنود الألمان ليسوا مجهزين باللباس والعتاد الملائم لمثل هذه الظروف، وهو ما جعل التراجع مئات الكيلومترات أمرا حتميا مع ما يكلفه ذلك من خسائر.
وكان “هتلر” يولي أهمية خاصة لاحتلال مدينة ستالينغراد، بما تمثله من اسم ورمزية الزعيم السوفياتي الذي تحمله. انطلق الهجوم النازي على المدينة -التي كانت تمثل أيضا مركزا صناعيا حيويا داخل الاتحاد السوفياتي- بعد شتاء 1942 القاسي، فتولى سلاح الجو الألماني تمهيد الطريق أمام القوات البرية بقصف مكثف استهدف المدينة.
لكن رغم الهجوم الكاسح الذي قامت به القوات الألمانية، فإن جيش “هتلر” واجه مقاومة استثنائية في المدينة، وكلّفته حرب شوارع وخسائر كبيرة، وانتظر الجيش السوفياتي وصول الحليف الاستراتيجي (الشتاء الموالي)، ليشن هجومه الشامل ضد القوات الألمانية التي سقطت بين فكي الكماشة؛ الجيش السوفياتي من جهة، والبرد والجوع والقمل من جهة ثانية.
كما كان “هتلر” يراهن على صمود قواته داخل ستالينغراد، عبر تزويدها بالتموين الضروري جوا، والعمل على كسر الحصار السوفياتي الذي ضرب على المدينة، لكن الوسائل اللوجستية وخطوط التموين سوف تشكل مقتل الجيش الألماني، فقد سيطر الجيش السوفياتي على المطارات التي كان سلاح الجو الألماني يستخدمها لإمداد قواته، واضطر الجيش الألماني المحاصر إلى الاستسلام في 2 فبراير/شباط 1942.
دامت معركة ستالينغراد قرابة 200 يوم، وخلّفت خسائر فادحة في صفوف الجيش الأماني، تقدر بحوالي مليون ونصف مليون بين قتيل وجريح وأسير، ورغم أن “هتلر” كان واثقا من قدرته على تعويض الخسائر البشرية التي تكبدها جيشه في ستالينغراد بسهولة، فإن الأثر المعنوي السلبي لتلك الهزيمة كان كبيرا على عموم القوات الألمانية، مما ساهم بشكل كبير في هزيمة النازية.
خطوط التموين.. وحش الجوع ينهش جسد الجيش النازي
تصف بعض الدراسات المتعلقة بتحليل أسباب فشل الجيش النازي في حملته على الأراضي الروسية، الخصائص التقنية لمعدات التموين والنقل التي استعملها النازيون، بكونها أشبه ما تكون بالوسائل التي استعملت خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى بعد خطوة واحدة فقط من تلك التي استعملها نابليون قبل أكثر من قرن من تلك المواجهة.
فقد كانت القوات الألمانية تستعين بالخيول لنقل المدفعية والإمدادات، إلى جانب خطوط السكك الحديدية، وكلها وسائل تصبح عاجزة عن تموين الفرق المقاتلة بعد ابتعادها مئات الأميال عن القواعد المجهزة التي انطلقت منها.
ويتوقّف ملف شامل نشرته مجلة “فورين بوليسي” صيف العام 2021، بتفصيل كبير عند مسألة التموين هذه، فقد كانت حاسمة في هزيمة الجيش الألماني وحرمانه من خطوط الإمداد والتموين، تزامنا مع اشتداد وطأة الثلوج والجليد.
كل يوم توقف وعجز عن الحركة في الجانب الألماني، كان بمثابة فرصة ثمينة للجيش السوفياتي لتنظيم صفوفه وتجهيز قواته التي تظل أقرب إلى مصادر التموين، وأكثر معرفة بالمجال الجغرافي وتضاريسه. ومثّل شتاء 1941-1942 حليفا حاسما للجيش السوفياتي، حين حاصر القوات النازية وفتك بقسم كبير منها.
كتيبة الشتاء.. نقطة قوة الروس ومكمن أعذار الغزاة
رغم شبه الإجماع الذي تحوزه فكرة تسبب الشتاء الروسي القاسي في اندحار أكبر الغزاة عبر التاريخ، وفي مقدمتهم “نابليون بونابرت” و”أدولف هتلر”، فإن بعض الكتابات تشكك في هذه الفرضية، وتعتبر أن الغزاة المنهزمين هم من روّجوها ومكّنوا لها، كي يدفعوا عنهم عار الهزيمة العسكرية. إلا أن هذه الكتابات لا تنفي مساهمة الشتاء الروسي القاسي المؤكدة في دحر الغزاة، بفعل صعوبة تأمين خطوط التموين وشساعة المساحة التي تكون الجيوش الغازية مطالبة بتغطيتها.
وتواجه الجيوش عادة في منطقة شرق أوروبا ظاهرة طبيعية فتاكة تسمى “راسبوتيتسا”، وهي ظاهرة تحدث في نهاية فصل الشتاء، حين يذوب الجليد، وتتحوّل الأرض إلى بحر من الأوحال، فتصعب الحركة والتقدم والتراجع، ويتحوّل الموقف إلى فخ طبيعي للجيوش الغازية. وتشكل هذه الظاهرة جدارا واقيا لروسيا من الجانب الغربي في نهاية كل فصل شتاء، وكل من صادفوا هذه الفترة في تلك المنطقة انتهوا منهزمين شر هزيمة.[20]
وتشير بعض الدراسات إلى أن الأمراض التي ينقلها القمل لعبت دورا كبيرا في هزيمة جيش نابليون في الأراضي الروسية، إذ عثر باحثون على مادة مستخرجة من بقايا أسنان الجنود الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة، تدل على تعرضهم لمرض التيفوس الذي ينقله القمل.
الكاتب : يونس مسكين
المصدر : الجزيزة