أعلنت المندوبية السامية للتخطيط أن 97.6% من الأسر المغربية صرحت بارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال السنة الماضية، وهو رقم يكاد يعادل الإجماع، ويعكس وضعاً معيشياً يتدهور بصمت لكنه بثبات. أكثر من مجرد معطى ظرفي، هذا الرقم يشكل مؤشراً صريحاً على أزمة عميقة تمس جوهر العلاقة بين الحكومة والمجتمع، وتضع الخيارات الاقتصادية والسياسية تحت مجهر التشكيك.
اللافت أن مؤشر أسعار المواد الغذائية استقر في مستوى سلبي بلغ ناقص 97.4 نقطة، بانحدار مستمر مقارنة مع الفصول السابقة. وهذا الاستقرار في القاع يعبّر عن شيء أكثر خطورة من مجرد غلاء: إنه تطبيع تدريجي مع واقع اقتصادي لم يعد المواطن يملك أدوات لمواجهته، في ظل انكفاء واضح للدولة عن دورها التنظيمي والاجتماعي.
أما التوقعات المستقبلية فلا تقل تشاؤماً، حيث أن 81.6% من الأسر تتوقع استمرار ارتفاع الأسعار، مقابل 1.6% فقط تعتقد بإمكانية الانخفاض. هذا الإحساس الجماعي بعدم الأمل ليس فقط نتيجة تجربة يومية مع السوق، بل أيضاً انعكاس لانعدام الثقة في قدرة الحكومة على التصدي للاختلالات البنيوية التي تخلخل دورة الاقتصاد الغذائي، من الإنتاج إلى التوزيع.
في العمق، هذه المعطيات تعكس كلفة سياسية لخيارات اقتصادية تم تبنيها خلال السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها “تحرير السوق” بدون ضوابط حقيقية. حكومة يقودها حزب ذو توجه ليبرالي، وتراهن على الاستثمار والانفتاح الاقتصادي، لكنها في المقابل فشلت في خلق توازن يضمن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. ففي غياب الدعم المباشر، وتعثر السياسات الحمائية، توسعت الفوارق ووجدت الطبقة المتوسطة نفسها مهددة بالانزلاق نحو الهشاشة.
الخطير أن هذه الأزمة تتغذى من ضعف أدوات الضبط، واحتكار قنوات التوزيع، وانفلات الأسواق من رقابة فعالة. وبما أن الحكومة أضعفت تدريجياً آليات التدخل، فإن السوق بات يتصرف بلا عقل، والمواطن يعيش تحت رحمة تقلبات الأسعار، والمضاربات، وشح المعلومة.
في ظل هذه المؤشرات، يصبح من الصعب تصديق الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن “تعافي اقتصادي” و”تحسن المؤشرات الماكرو-اقتصادية”. فمتى كان النمو يعني شيئاً إذا كان لا ينعكس على مائدة المواطن؟ ومتى كانت أرقام الاستثمار دليلاً على النجاح إذا تزامنت مع أرقام غير مسبوقة للفقر والتشاؤم الجماعي؟
الرسالة واضحة، لكنها تتطلب إرادة سياسية للإنصات: السوق وحده لا يبني اقتصاداً متوازناً، وإذا غابت الحكومة، فإن الثمن تدفعه الأسر، واحدة تلو الأخرى. وإعادة التوازن لن تكون ممكنة بدون تدخل تنظيمي حازم، وإعادة الاعتبار لمهمة الحكومة الاجتماعية، بعيداً عن التبريرات التقنية وخطابات التطمين التي لم تعد تقنع أحداً.