الحدث بريس:محمد المهدي/تاوريرت
كنت قد تساءلت في مقال سابق عن جوهر الإنسان في زمن الأزمات : هل نحن اليوم كما كنا قبل كورونا؟ ألم يفعل فينا كورونا ما لم تفعله السّنون الطوال ،بغض النظر عن نوع هذا الفعل، أو درجته أو ما مدى أثره فينا كذوات و كجماعات..؟؟. إن العالم اليوم يتجه شيئا فشيئا نحو الانسلاخ من كينونته المعهودة ، ليسير بسرعة ضمن مسار الآخـر ، و هذا ما يدل على أننا أصبحا آخرين غير نحن، مما يجعل هُنـا الأنا الحاضر/الغائب مَـحل تساؤل و ريبة..!!. و بالتالي جَعْل كل واحد منا ينفرد بنزعة خاصة من التحفظ ضد الآخر.. تحفظ يُعَبَّـرُ عنه بسلوكيات جديدة فرضها عصر كورونا الجديد، وهو العصر الموسوم “بالوقاية و الحذر الشديد” من الاختلاط و الملامسة و الاقتراب و كل ما يَمُت للحميمية و الاجتماعية بصلة.
لقد تولدت لدى الإنسان في عهد كورونا نظرةٌ قهرية سِمَتُـها الريبة والشك من الآخـر أيا كان هذا الآخر.. تخوف من أن يكون هذا المشكوك فيه مصابا أو حاملا للفيروس المشؤوم، مما يستدعي الانزواء عنه و عدم التقرب منه أو مخالطته، و هي نفس النظرة التي يرى بها الآخر إليك أيضا.. فقد أضحى الجميع يرى بعين الريبة و التوجس إلى الجميع، فُرادى و جماعات، ليس بدافع انعدام الثقة أو عدم الاكتراث، لكن بدافع الوقاية و الحذر القهري، و هذه مقدمة لشيء أفظع لا قدر الله و خاصة إذا طالت هذه المحنة، و قرر هذا الضيف الثقيل “كورونا” الاستقرار بيننا لمدة أطول.. مما سيُفضي بشكل تدريجي وآلي إلى انعكاسات سلبية على طبيعة العلاقات الاجتماعية، و حميمية تواصل الأفراد و الجماعات، سواء من الأصدقاء أو من بين الأهل والأقارب..
الجميع بالنسبة لنا الآن هم آخرون، ونحن بالنسبة لهم آخرون..!. إنه انزياح كاسح للآخر عللا منطقة الأنـا ، وانشغال هذه الأخيرة بالآخر أكثر مما يلزم ،عكس ما كان عليه الأمر قبل الحقبة هذه الكورونية البئيسة..!!
لقد كشفت كورونا عن الكثير من أخطائنا و هفواتنا، و أضاءت لنا الكثير من عوالمنا المظلمة، التي لم نكن لنلتفت إليها لولا أن بدت لنا حافة العالم و شفير النهاية ، و انتهاء التاريخ .. ليس تاريخ فوكوياما ، ولكنه نهاية الجنس البشري على هذا الكوكب الجميل .. نهاية ما كان لأحد أن يتخيلها بهذا الشكل التراجيدي البئيس ، الذي كاد أن يَذهَب بكل ما رسمته البشرية من صور الشجاعة و الفروسية .. فروسية استحالت خوفا و قلقا و توجسا لم يشهده تاريخ البشرية على امتداده و عمقه. كما كان الفضل أيضا لكورونا في جعل العالم يعيد النظر في ترتيب أولوياته و إعادة بناء علاقاته التي شابها الكثير من التشويش و الفردانية الجشعة التي أحالت البشرية إلى قطيع من العبيد .. عبيدٌ للثروة و المال و السلطة و الهيمنة و الجاه، وعبيد للشهوة و النزوات.. فلربما يدرك الإنسان أن قوته ليس فيما يملكه من مال أو ثروة أو جاه ، و تدرك الدول أيضا أن قوتها ليس فيما تمتلك من مخزون من أسلحة الدمار الشامل أو تستحكم عليه من احتياطيات النفط و الغاز و العملة و الذهب ، بل على الإنسانية أن تدرك أن وجودها و أمنها يقف اليوم كما الغد على ما أنجزته و ستنجزه من فتوحات علمية لفائدة الإنسانية جمعاء، ضمانا لاستمرار الجنس البشري على الأرض، وفي مقدمتها تحصين البشرية من الأمراض و الأوبئة و الجائحات و الجوع و الفقر و الجهل ، و لن يتحقق هذا إلا بتحيين الأولويات و إعادة ترتيبها و في مقدمتها الصحة و التعليم والغذاء .. إن سلامة الكوكب تمر أولا و أخيرا عبر السلامة البدنية و العقلية للإنسان ، الذي هو الحارس الأول و الأخير لهذا الكوكب و المُؤْتَمَن عليه .
عود على بدء .. نقول : لكي لا نصبح نحن الآخر ، على الإنسان أن يدرك حجم النعمة التي يتمتع بها تحت هذه السماء و على هذه الأرض بكل ما أوتيت من خيرات و ثروات ، جعلها الله كلها مسخرة لأجله ، لِيُعمر و يبنـي و يستمر عليها إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .. أما إذا استمر على غير ذلك ، فلينتظر حقبا أشد سوادا من حقبة كورونا و فيروسات أكثر فتا من كورونا، وينكفئَ تارة أخرى على عقبيه و يعود إلى التوجس من أخيه الإنسان(الآخر)،مهما قَرُب و مهما غَـلا هذا الآخر، و هذا على عكس الطبيعة البشرية الموسومة بالاجتماعية و الحميمية.
إننا في عهد كورونا ، حيث أصبح الشك و التخوف من أقرب الأقربين هروبا من العدوى ، نجسد فعلا قوله الله تعالى كما ورد في سورة عبس ” يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37) “.. لكن أخشى ما نخشاه هو أن يُدرك الإنسان مُتأخرا أن نهايته ستكون على يده هو (كــإنسان) وليس بيد الآخر الآتي من خارج الكوكب.