في خضم التحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي تعيشها مجتمعاتنا، بدأت تبرز بين الحين والآخر سلوكيات غريبة ومقلقة، تعكس في كثير من الأحيان اهتزازًا في منظومة القيم وخللاً في الوعي الجماعي. ومن بين أكثر هذه الظواهر إثارة للانتباه ما أصبح يُعرف بـ”البوز الرقمي”، حيث يتسابق بعض الشباب إلى استعراضات متهورة على منصات التواصل الاجتماعي، تتنوع بين مشاهد العنف، والتلويح بأسلحة نارية وهمية أو بيضاء، ونشرها بهدف إثارة الجدل وجلب الانتباه، غير مدركين لما يمكن أن يترتب عن هذه التصرفات من تبعات قانونية وأخلاقية واجتماعية جسيمة.
هذا السلوك في جوهره تحركه رغبة عارمة في الشهرة، في وقت أصبحت فيه المنصات الرقمية مقياسًا جديدًا لتقدير الذات ومكانة الفرد. حيث يُقاس النجاح بعدد المشاهدات والتفاعلات، لا بقيمة المحتوى أو أثره الإيجابي. في خضم هذا السعي المحموم نحو الأضواء، يتجاوز البعض الخطوط الحمراء دون وعي، ظنًا منهم أن إثارة الجدل بأي وسيلة تبرر الوسيلة ذاتها، وهو ما يهدد بتطبيع ثقافة التهور داخل المجتمع ويؤدي إلى تآكل الشعور العام بالمسؤولية.
ويُفاقم هذه الإشكالية التأثير القوي للمحتوى الإعلامي العنيف، سواء في المسلسلات، أو الأفلام، أو ألعاب الفيديو، الذي يرسّخ لدى بعض الشباب صورة مشوّهة عن مفهوم القوة والهيبة. فيتحول حمل السلاح — حتى وإن كان بلاستيكياً — إلى أداة لإثبات الذات، ويتحول العنف إلى أسلوب تعبير يوهم البعض بأنه يمنحهم شرعية أو سلطة رمزية. في هذه الحالة، يكون الشاب مجرد نسخة باهتة من بطل خيالي، يسعى لتقليده، وهو لا يدرك أنه في الواقع يعزز مناخ الانحراف ويقوض الأمن المجتمعي.
كما أن عامل الفراغ واليأس الناتج عن البطالة وقلة الفرص والأنشطة الهادفة يدفع بعض الشباب إلى البحث عن أي منفذ لإثبات الذات أو كسر الروتين، ولو عبر تصرفات طائشة تتحدى القانون وتهدد استقرار المجتمع. وتزيد هذه المشكلة تعقيدًا حين يتداخل ضعف الوعي القانوني، حيث يرى البعض هذه الأفعال مجرد “مزحات شبابية”، متغافلين عن أنها تُعد جرائم قانونية تستوجب المساءلة والعقاب، لما تحمله من تهديد مباشر للأمن العام.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل دور الضغط الجماعي والتأثير المتبادل داخل المجموعات الشبابية. فالرغبة في الانتماء، أو إثبات الذات داخل مجموعة معينة، تدفع البعض إلى سلوكيات لا تتماشى مع قناعاتهم، ولكنها تفرض عليهم كـ”طقس عبور” نحو الزعامة أو القبول الاجتماعي داخل المجموعة. وهنا يصبح الشاب رهينة لمنطق الجماعة، يفعل ما لا يجرؤ عليه بمفرده، خشية الإقصاء أو السخرية.
من المؤكد أن التعامل مع هذه الظواهر لا يجب أن يُختزل في الجانب الأمني فقط. فالعقوبات، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لمعالجة الجذور العميقة لهذه السلوكيات. المطلوب هو مقاربة شاملة، تبدأ بإصلاحات تربوية وثقافية، مرورًا بحملات توعية قوية تبرز خطورة هذه الأفعال وتشرح عواقبها، ووصولًا إلى توفير بدائل إيجابية تتيح للشباب فرصًا للتعبير والإبداع، عبر الرياضة والفنون وريادة الأعمال. كما أن مراقبة المحتوى الإعلامي وتعزيز الحس النقدي لدى الشباب ضروريان لفصل الترفيه الهادف عن المحتوى الذي يهدم القيم.
و يبقى الشباب هم الثروة الحقيقية للمجتمع، وضمان حمايتهم من الانحراف مسؤولية جماعية لا تقتصر على الأسرة أو الدولة فقط، بل تشمل المدرسة، والمجتمع، وكل مؤسسة لها علاقة ببناء الإنسان. تجاهل هذه الظواهر هو بمثابة التفريط في مستقبلهم، وبالتالي التفريط في مستقبل الوطن.