في عالم متغير تتسارع فيه التحولات الاقتصادية، لا تكفي الأرقام الاسمية وحدها لفهم الحجم الحقيقي لاقتصادات الدول. ورغم احتفاظ الولايات المتحدة بالمركز الأول عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الاسمية، إلا أن الصورة تختلف جذريًا عندما يُستخدم مقياس تعادل القوة الشرائية (PPP)، الذي يضع الصين في موقع الصدارة بفارق كبير.
تعادل القوة الشرائية ليس مجرد مؤشر تقني، بل هو أداة تحليلية تزداد أهميتها لفهم الفروق الحقيقية في القوة الشرائية ومستوى المعيشة بين الدول. ويقوم هذا المقياس على تحديد سعر صرف افتراضي يجعل تكلفة سلة موحدة من السلع والخدمات متساوية في مختلف البلدان، ما يتيح مقارنة أكثر واقعية للناتج المحلي الإجمالي بين الاقتصادات، خصوصًا تلك التي تتميز بانخفاض مستويات الأسعار.
لتبسيط الفكرة، يمكن النظر إلى مثال فنجان القهوة. فإذا كان يُباع مقابل 1.50 دولار في الولايات المتحدة و15 بيزو في المكسيك، فإن سعر الصرف الرسمي البالغ 1 دولار = 30 بيزو يجعل سعر الفنجان في المكسيك يعادل نصف دولار فقط. لكن بحسب تعادل القوة الشرائية، فإن سعر الصرف الأنسب قد يكون 1 دولار = 10 بيزو، ليعادل فنجان القهوة في المكسيك نفس كلفته في أمريكا. هذا الفارق يُظهر أن القيمة الحقيقية للعملة المكسيكية أعلى مما تعكسه أسعار الصرف الرسمية.
ووفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي لعام 2025، تتصدر الصين قائمة أكبر الاقتصادات عالميًا بحسب مقياس PPP بناتج إجمالي يبلغ 40.72 تريليون دولار، تليها الولايات المتحدة بـ30.51 تريليون دولار، ثم الهند بـ17.65 تريليون دولار. وتبرز روسيا واليابان وألمانيا ضمن المراتب التالية، في حين تدخل إندونيسيا والبرازيل إلى قائمة العشرة الأوائل، وهو ما يعكس تغيرًا لافتًا في موازين الاقتصاد العالمي.
أما على المستوى العربي، فتُظهر الأرقام أن مصر تحتل المرتبة 17 عالميًا بناتج محلي قدره 2.37 تريليون دولار وفقًا لتعادل القوة الشرائية، تليها السعودية في المرتبة 18 بـ2.23 تريليون دولار. كما تظهر الإمارات والجزائر والعراق في القائمة، بأرقام تتراوح بين 0.9 و0.7 تريليون دولار، ما يعكس أهمية هذه الاقتصادات الإقليمية في التوازنات العالمية الجديدة.
ويرى محللو “كابيتال إيكونومكس” أن هذا المقياس يعزز من عدالة المقارنة بين الدول، خاصة تلك ذات الدخول المنخفضة أو المتوسطة، حيث يسمح بتجاوز التشوهات التي يفرضها سعر الصرف الرسمي ويأخذ بعين الاعتبار الفروقات في مستويات الأسعار المحلية.
لكن رغم دقته النسبية، لا يخلو هذا المقياس من تحديات. فالنقص في البيانات المحدثة حول أسعار السلع، خاصة في الدول النامية، يظل أحد أبرز العقبات. كما لا يعكس تعادل القوة الشرائية الفروقات في جودة المنتجات أو مستويات الابتكار والتكنولوجيا، التي قد تُحدث فارقًا كبيرًا في الكفاءة الاقتصادية.
في المقابل، يظل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي المعيار الأكثر تداولًا في الأوساط المالية والشركات متعددة الجنسيات، نظرًا لبساطته وسهولة مقارنته، رغم ما يشوبه من انحياز لصالح الاقتصادات ذات العملات القوية.
خلاصة القول، أن تعادل القوة الشرائية لا يُغيّر فقط ترتيب الدول على لوائح الاقتصاد العالمي، بل يفتح الباب أمام مقاربة أكثر إنصافًا لتحليل ثقل الدول الحقيقي في النظام الاقتصادي الدولي، وإن كان ذلك لا يخلو من إشكالات تقنية ومنهجية تتطلب الحذر في التفسير.