في سياق التحولات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع تقني أو شأن مستقبلي، بل بات مسألة سيادية تتقاطع مع التنمية الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية، والأسئلة الحقوقية والأخلاقية التي يطرحها عصر الخوارزميات. من هذا المنطلق، يأتي تقرير مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة بمجلس النواب حول الذكاء الاصطناعي كأول محاولة مؤسساتية لتفكيك هذا الموضوع من داخل البرلمان المغربي، برؤية تتوخى الجمع بين الاستيعاب النظري، والاستشراف العملي.
التقرير الذي تم تقديمه في دورة أبريل 2025، تحت إشراف النائب أنوار صبري والمقررة البرلمانية نزهة مقداد، يعد وثيقة مرجعية بكل المقاييس. فهو يعكس انتقال الذكاء الاصطناعي من حقل الخيال العلمي إلى حقل التشريع العمومي، بما يعنيه ذلك من ضرورة بناء موقف وطني واضح تجاه هذه الظاهرة التي باتت تعيد تشكيل أنماط الإنتاج، وأساليب الحكم، وعلاقات القوة في العالم.
من خلال مقاربة تشاركية جمعت بين الخبراء، والفاعلين المؤسساتيين، وممثلي القطاع الخاص، سعى التقرير إلى تقديم تشخيص دقيق لواقع الذكاء الاصطناعي في المغرب، متوقفًا عند الإمكانات المتاحة، والاختلالات المسجلة، والمخاطر المحتملة. فالمغرب لا ينطلق من فراغ، إذ يتوفر على كفاءات علمية، وبنيات جامعية، وتجارب ناشئة في مجالات تحليل البيانات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، إلا أن غياب إطار وطني مندمج، وعدم وضوح الرؤية المؤسساتية، يظلان من أبرز نقط الضعف التي سجّلها التقرير.
وفي حين يُراكم العالم تجارب قانونية وتنظيمية متقدمة في هذا المجال، أشار التقرير إلى ضرورة بناء إطار تشريعي وطني يؤطر استعمالات الذكاء الاصطناعي، ويضمن حماية الحقوق والحريات، ويمنع كل أشكال التحيز أو المراقبة أو الانزلاق نحو الاستخدامات الخطرة. كما شدد على أهمية التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره قضية استراتيجية، وليست مجرد أداة تكنولوجية عابرة، خاصة في ما يتعلق بالسيادة الرقمية، وحماية المعطيات، وتدبير البنية التحتية الرقمية.
التقرير توقف أيضًا عند التحولات البنيوية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في سوق الشغل، من خلال تهديد بعض الوظائف التقليدية، وخلق فرص جديدة في المقابل، لكنه دعا إلى التمكين الرقمي والتكوين المستمر باعتبارهما الشرط الأساس لتحقيق عدالة رقمية تقلص من الفجوة بين الفئات والمجالات.
ولم يُغفل التقرير البعد الأخلاقي والبيئي، من خلال التحذير من التبعات البيئية المرتبطة بالاستهلاك المرتفع للطاقة في مراكز المعالجة الرقمية، وأهمية تطوير ذكاء اصطناعي أخلاقي يراعي القيم الإنسانية ولا يتحول إلى أداة تحكم وهيمنة.
أما في الشق المؤسساتي، فقد كانت إحدى التوصيات اللافتة هي الدعوة إلى إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمل البرلمان نفسه، سواء في مجال تحليل المعطيات، أو دعم اتخاذ القرار، أو تطوير آليات الرقابة والتشريع. وهو ما يعكس وعيًا متناميًا بأهمية تحديث الأدوات المؤسساتية وتكييفها مع روح العصر الرقمي.
وقد تضمن التقرير مجموعة من التوصيات الاستراتيجية، على رأسها بلورة رؤية وطنية مندمجة للذكاء الاصطناعي، تُمأسس التعاون بين الدولة والقطاع الخاص والجامعات، وتراهن على البحث والابتكار، وتربط الذكاء الاصطناعي بالأولويات التنموية للبلاد، بدل الاكتفاء بنقل النماذج الجاهزة.
في النهاية، لا يمكن قراءة هذا التقرير إلا بوصفه لحظة تأسيسية في مسار بناء وعي سياسي وتشريعي مغربي بمخاطر وفرص الذكاء الاصطناعي. وهي لحظة تتطلب المتابعة والتفاعل، لا فقط من قبل الفاعلين المؤسساتيين، بل أيضًا من قبل المجتمع المدني، والإعلام، والمواطنين أنفسهم، لأن الذكاء الاصطناعي، كما جاء في التقرير، ليس مجرد تقنية، بل سؤال مجتمعي مركزي يخص حاضر المغرب ومستقبله.