يشهد المغرب في الآونة الأخيرة موجة احتجاجات جماهيرية تعكس حالة من التفاعل الشعبي المتجدد مع القضية الفلسطينية، في سياق متوتر إقليميًا وإنسانيًا بسبب ما يجري في قطاع غزة. هذه المظاهرات، التي نظمت في مدن عديدة، تحولت إلى منصات جماعية للتعبير عن رفض التطبيع مع إسرائيل، باعتباره موقفًا لا يتماشى – في نظر المشاركين – مع المبادئ الأخلاقية والتاريخية للمجتمع المغربي الداعم تقليديًا للقضية الفلسطينية.
ما يلفت في هذا الحراك هو طابعه العابر للتيارات السياسية، حيث انخرط فيه يساريون وقوميون وإسلاميون ومستقلون، مما يعكس مدى عمق الارتباط العاطفي والرمزي بالقضية في الوعي الجماعي. غير أن هذا التنوع لا يخلو من تناقضات داخلية، فبعض الفاعلين يحذرون من توظيف المأساة الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أو لإعادة تموقع بعض الفصائل في المشهد الوطني.
في المقابل، لا تغيب أصوات معارضة لهذا الزخم الاحتجاجي، وترى أن الانخراط في هذه الموجات العاطفية يجب أن يُقرأ ضمن توازن دقيق بين المبادئ والمصالح العليا للدولة. يعتبر هؤلاء أن قضية الصحراء المغربية تمثل الأولوية الوطنية القصوى، ويرون أن إثارة ملفات أخرى قد تفتح الباب أمام استغلال خارجي، خاصة من أطراف يعتبرونها غير بريئة في دعم هذه الحركات. من بين هذه الجهات يُشار إلى إيران وقطر، حيث يعتقد بعض المنتقدين أن لهما دورًا غير مباشر في تغذية الخطاب المناهض للتطبيع، رغم أن هاتين الدولتين لا تشهدان حراكات شعبية مماثلة لدعم فلسطين على أرضهما.
من زاوية أخرى، يُتهم بعض الفاعلين الإسلاميين، وخاصة المحسوبين على تيار الإخوان المسلمين، بمحاولة “ركوب” هذا الموج الاجتماعي لتصفية حسابات سياسية مع الدولة أو لاسترجاع شرعية جماهيرية مفقودة. في هذا السياق، يُطرح أيضًا سؤال حول العلاقة بين الحركات الفلسطينية وبعض الدول المعادية لمصالح المغرب، كحالة التحالف المعلن بين بعض فصائل السلطة الفلسطينية والجزائر، البلد الذي لا يخفي موقفه من قضية الصحراء المغربية.
يرى البعض في هذا التعقيد دافعًا لإعادة النظر في طريقة تدبير العلاقة مع القضية الفلسطينية، خاصة حين يُستحضر أن مواقف كيانات فلسطينية رسمية لم تعترف بعد بمغربية الصحراء، وأن دولًا مثل قطر، رغم خطابها الإعلامي المتعاطف مع غزة، لا تعلن دعمًا صريحًا للوحدة الترابية المغربية.
مع ذلك، لا يخفي هذا السجال أن الحضور الشعبي في الشارع المغربي يعبر عن نبض وجداني أصيل تجاه فلسطين، حتى وإن اختلفت التأويلات والدوافع. فبين من يعتبر المظاهرات واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، ومن يرى فيها ترفًا سياسيًا أو خطرًا استراتيجيًا، تتراوح النقاشات في الفضاء العمومي الرقمي والواقعي، وتغذيها خلفيات سياسية وإيديولوجية متباينة.
النتيجة هي مشهد مركب تتقاطع فيه القناعات الشعبية مع رهانات السيادة، وتتصادم فيه المبادئ مع معطيات الجغرافيا السياسية. وهو ما يفرض مقاربة أكثر وعيًا وإدراكًا بتعقيد العلاقات الدولية، دون أن يعني ذلك مصادرة الحق في التعبير أو النضال الرمزي من أجل القضايا العادلة. فالمغرب، كغيره من الدول، يواجه تحدي التوفيق بين إرادته الشعبية ورهاناته الدبلوماسية، بين صورته الأخلاقية في الخارج واستحقاقات مصالحه العليا في الداخل.