انطلقت، اليوم السبت، بمدينة جنيف السويسرية، جولة جديدة من المحادثات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، في توقيت حساس يطرح أسئلة عميقة حول مستقبل العلاقة بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، ومدى قدرتهما على تجاوز منطق التصعيد نحو صيغ أكثر استقراراً. يقود الوفد الأميركي وزير الخزانة سكوت بيسنت، فيما يمثل الجانب الصيني نائب رئيس مجلس الدولة خه لي فِـنغ، وسط توقعات حذرة من طرف الأسواق الدولية.
وتأتي هذه الجولة بعد سنوات من حرب تجارية شاقة، أطلق شرارتها الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال ولايته الأولى، عبر فرض رسوم جمركية قاسية على الواردات الصينية، بلغت في بعض الحالات 145%. غير أن التصريحات الأخيرة لترمب تشير إلى تحول نسبي في الموقف الأميركي، إذ لمح هذا الأسبوع إلى إمكانية خفض تلك الرسوم إلى 80%، معتبراً أن المستويات الحالية “لا يمكن أن ترتفع أكثر من ذلك”. هذا التغير، وإن لم يكن تأكيداً على نية التسوية، يعكس إدراكاً متزايداً بكلفة التصعيد، سواء على الشركات الأميركية أو على توازن السوق العالمية.
الصين، من جهتها، تدخل جولة جنيف بنهج براغماتي متحفظ. فهي من جهة تسعى إلى تخفيف التوترات التي تعرقل نموها وتضعف موقعها في سلاسل التوريد، ومن جهة أخرى، تتمسك بمقومات نموذجها الاقتصادي، الذي لا يزال يُتهم من طرف واشنطن بعدم احترام مبادئ المنافسة النزيهة ونقل التكنولوجيا. هذا التوازن الدقيق بين الانفتاح التكتيكي والصلابة الاستراتيجية يجعل من المفاوضات الحالية اختباراً لنوايا الطرفين أكثر مما هو بداية لحل نهائي.
مقارنة بجولات التفاوض السابقة، لا سيما تلك التي جرت في 2018 و2019، يمكن رصد تغير في السياق الدولي. ففي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تراهن آنذاك على الضغط الأقصى، باتت اليوم تتحرك في بيئة دولية أكثر تعقيداً، تتسم بتعدد الأقطاب، وعودة الحمائية، وتراجع فاعلية المؤسسات متعددة الأطراف. أما الصين، فقد وسعت من تحالفاتها التجارية، وعززت موقعها في الاقتصاد الرقمي والبنية التحتية العابرة للحدود، مما يمنحها أدوات تفاوضية أقوى، وإن لم تكن بديلاً كاملاً عن السوق الأميركية.
على هامش هذا الصراع الكبير، يبرز سؤال يتعلق بتأثير هذه المفاوضات على دول غير مركزية في النزاع، مثل المغرب. فاقتصاد المملكة، المنخرط في ديناميات التحول الصناعي والطاقي، يتأثر بشكل غير مباشر بمستوى التوتر أو التفاهم بين بكين وواشنطن. تهدئة الأجواء بين القوتين قد تنعكس إيجاباً على أسعار المواد الأولية، واستقرار سلاسل الإمداد، كما قد تفتح آفاقاً جديدة أمام الاستثمارات الثنائية، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقات المتجددة والصناعة الخضراء، التي أصبحت تحظى باهتمام متزايد من الطرفين في القارة الإفريقية.
في المحصلة، لا تقتصر أهمية مفاوضات جنيف على ما ستسفر عنه من نتائج مباشرة في ملف الرسوم الجمركية، بل تمتد إلى ما هو أعمق: إعادة تعريف قواعد التنافس الدولي، وتحديد موقع الدول الصاعدة والمتوسطة ضمن نظام اقتصادي عالمي يعاد تشكيله على وقع التوترات والمصالح المتقاطعة.