الحدث بريس: لحبيب عكي
لله ذر الفنان الساخر وقد كان يثير – منذ عقود – أزمة صعود “القرد الفلاحي” إلى الجبل بدعوى عزمه على تنميته ومساعدة أهله في تيسير أمرهم وتحسين حياتهم، بما سيمنحهم من ديون سخية لدعم مزروعاتهم وتوفير أعلاف بهائمهم وتثمين حرفهم التقليدية واستقرارهم في الجبل بشكل عام. لكن أهل الجبل لم تسعفهم ظروفهم القاسية وعدم تنظيمهم إلا على استثمار “قرودهم” في معيشهم اليومي من حفلات الزواج ومآتم الطلاق.. ومواسم الأولياء وفي أحسن الأحوال حراك نحو المدينة للقطع مع الجبل والترحال والطرق الوعرة وكل الجغرافيات والمناخات الصعبة؟. وحتى من أسعفته نيته وتشبته بموطنه واستمر فعلا في الفلاحة وحفر بئرها واستخراج مائها، وشراء تقنيتها وأسمدتها، فإن التغيرات المناخية قد اشتدت عليه أكثر وأكثر، فلا منتوجات قد حصد ولا ديون قد رد، إن “القرود” قد أدمنوا على الفساد، إذا صعدوا جبلا خربوه وكذلك يفعلون؟.
أين الجبل مما سجله التراث العالمي الزاخر الفاخر الساحر حوله؟، أين عنزة السيد “سوغان” من كانت تصعد وحدها حرة طليقة إلى الجبل فتفرح وتمرح، تطوف حول خرير المياه في المروج وبهاء الشلال وبياض الثلوج .. تصهرها أشعة الشمس الدافئة، في توازن بيئي إيكولوجي بين الرشد الإنسان والتنوع النباتي والتعدد الحيواني، الجبل كان على الدوام مأوى الجميع ومنبع كل الخيرات ومصدر كل الثراء والعطاء والسخاء الدائم للجميع، معادن نفيسة وجواهر كريمة سطحية ومطمورة، وقود أحفوري وفحم وملح حجري، غابات كثيفة وهواء نقي صحي يداوي من العلل والأسقام، أعشاب عطرية طبية، منسوجات صوفية وحرف تقليدية متنوعة ومزدهرة، سياحة جبلية عبر مواقع تاريخية وأحداث أسطورية، منتجعات لرياضات التسلق والتزحلق، غنى العادات والتقاليد الفطرية الأصيلة، وكلنا يتذكر ما كان من تقدم بين أهل السفح وأهل الجبل في العهد القريب للتبادل والمقايضة والسوق الاسبوعي، عهد رابح ..رابح.
لكن، يبدو أن ليست “القرود” وحدها من صعدت اليوم إلى الجبل فخربته، بل “الحلاليف” و”الذئاب” بكل أشكالها ومن على شاكلتها أيضا، وإلا فمن فتك بعنزة السيد “سوغان” ليلا في غفلة منه؟، من سبب حزنه وقوى أوجاع الثري المسكين على رفيقة دربه الوفية السخية، يعطيها حبا وعشبا ترعاه في كل مكان وتعطيه لبنا وزبدا رابيا لذة للشاربين. من أخرج ساكنة “أيت بوكماز” الهادئين (حوالي 33 قصرا) عن بكرة أبيهم بالآلاف في مسيرة عزة وكرامة، وحقوق ومواطنة، وعدل وإنصاف، ينشدون ما ينشدون في حر الصيف من السلطات العليا قبل الدنيا، وقد قطعوا كبارا وصغارا من المسافات الطوال ما قطعوا، ورفعوا من الشعارات الصاخبة والآهات الصادمة ما رفعوا، ودبجوها من الرسائل والمطالب ما يبتك الآذان، هي في قواميس التنمية وشعاراتها المجالية والمستدامة بدائية، ولكنها وعبر عقود وولايات من التجاهل والنسيان..، لم يكن لها عند أحد ممن كان موطئ قدم أي موطئ؟.
وعمليا، وكأن السياسات العمومية قد تناستها، والقطاعات الحكومية قد تجاهلتها، وعجز عن تلبيتها من خاض الانتخابات البرلمانية باسمها، ومن تصدر مقاعد الجماعات الترابية الجهوية منها والقروية، بل حتى السلطات المعينة وجهة المسيرة الاحتجاجية للساكنة بقيادة رئيس جماعة المنطقة لينضاف بحراكه الاجتماعي إلى حراكات ملتهبة منطفئة في “الريف” و”جرادة” و”العيون” و”زاكورة” و”فكيك” و”تطوان”…، ولكن هذه المرة من العالم القروي، وعشرات القرى مثل “أيت بوكماز” تئن في صمت، ناهيك عن الحراكات الفئوية المتقدة الكامنة للأساتذة المتعاقدين.. وأطباء الغد.. وأئمة المساجد والخطباء.. والممرضين والمتقاعدين.. ممن يملؤون شوارع الرباط العاصمة كل حين، لتأكد حقيقة واحدة أن المغرب في دينامية اجتماعية مستمرة وحارقة، ولكن من يراعيها؟؟. مطالب “أيت بوكماز” : إصلاح طريق لفك العزلة، طبيب قار للصحة العامة، سيارة إسعاف، شبكة أنترنيت، ملعب القرب، مركز التكوين في المهن الجبلية ضد البطالة والهجرة، بناء سدود تلية للحماية من الفيضانات..، فقط.. فقط ولكن هذا يستدعي احتجاجا وحركا اجتماعيا – وربما من يدري – في مغرب كأس العالم 2030؟.
إنها مطالب أبسط من بسيطة، بمقدور مجرد المحسنين إنجازها، فكيف عجز عنها “البرنامج الوطني لتنمية الجبل” نسمع بضجيجه ولا نرى خراجه، و”الصندوق الوطني للتضامن بين الجهات”، و”الصندوق الوطني لمحاربة الكوارث الطبيعية”، و”المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، و”الوكالات الجهوية لتنمية “الأركان” و”النخيل” و”التفاح” و”المزاح” و”حب الملوك”.. في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب”؟. كيف عجزت عنها وحتى عن التوسط فيها أحزاب سياسية أنشأت لعقود وولايات لتنمية الأرياف وإنصاف العالم القروي خصيصا؟. أين المجتمع المدني ومشاريعه الوطنية والدولية، من يمنعه من تعبئة الرأسمال المتاح لمواجهة مثل هذه المعضلات التنموية؟، إن هناك خللا وشيئا ما ليس على ما يرام، إن هناك شيئا ما ينقصنا، لعل أهمه بالدرجة الأولى هو الصدق، الصدق في ما نقول وما نعمل، والصدق في مدى نشداننا للعدالة الاجتماعية والانصاف الجهوي والمجالي، ناهيك عن مستلزماته من شعارات الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة والنتائج؟.
أكيد، أن أجيال اليوم قد تغيرت – كما قال السيد رئيس الجماعة – يهاجرون خلال السنة إلى مناطق قريبة وبعيدة من المنطقة، وعندما يعودون في مناسبات العيد، يقارنون بين ما عند الآخرين وما ليس عندهم، يبحثون عن مجرد ملعب للقرب لمبارياتهم الحبية، عن مركز ثقافي للترفيه وهي حق من حقوق الأطفال والشباب، عن شبكة الأنترنيت في المقاهي كما تستدعي الحياة المعاصرة..، فلا يجدون.. لا يجدون؟، فكيف تريدهم أن يصبروا، أو أن يعتقدوا بالأمل في غد أفضل أو في إصلاح أشمل يمكن أن يأتي فيه دورهم يوما حتى تتمتع قريتهم بما يتمتع به الآخرون، خاصة أن تأثيرات المدينة والعولمة في القرية لا تخفى على أحد؟. وهنا السؤال للسيد الرئيس المحترم، هل ترون أيها المناضل في مطالب حراككم الاجتماعي على بساطتها ومشروعيتها وما حظيت به من التضامن الشعبي الواسع، هل ترون فيها ما يمكن أن يساهم في الاستقرار الحقيقي للساكنة والحد من تراجع القيم وضعف القدرات والهجرة والبطالة.. وغيرها من أسباب مآسي الشباب؟. التنمية تثمين موارد مادية ورأسمال بشري وقيم جماعية نهضوية، فماذا تثمن من منتوجات جبالنا وأريافنا وحتى مدننا، ماذا نعطيها من أدوار تنموية مناسبة ومستدامة حتى لا تتقهقر مثل المدن المنجمية بعد غلق مناجمها؟.
مساهمة منا في هذا الاتجاه، إليكم بعض التجارب الدولية الناجحة في تنمية الجبل وعوالم الأرياف، ففي سويسرا والنمسا ونيوزيلاندا والصين وكوستاريكا.. وكلها ذات تضاريس وعرة ومناخ صعب، ولكنهم يستثمرون الجبل في إنتاج اللحوم والألبان ومشتقاتها والجلود والأخشاب وصناعاتها والأصواف والأوبار وملبوساتها، بالإضافة إلى السياحة الجبلية بملايين الوافدين من أجل رياضات المشي والتسلق والتزحلق ومنتجعات الاصطياف، ومراكز تثمين المنتوجات التقليدية والعادات الأصيلة في الاستهلاك مثلا، وهنا يمكن الإشارة إلى جماعة “أوريكا” عندنا وكل اقتصادها قائم على مجرد “وادي” والسياحة الجبلة ببعد وطني ودولي؟، وفي الهند وهي بلد الفقر والهشاشة والكثافة السكانية الهائلة، قد استثمرت في التكنلوجيات الحديثة للتعليم عن بعد، مما أتاح لها الرفع من منسوب الوعي لدى المتعلمين وبالتالي تحقيق العديد من النتائج الإيجابية لديهم.. مشاريع مدرة للدخل، التعليم لمحاربة الجهل والأمية، تحسين الخدمات الصحية، محاربة الهدر المدرسي والزواج المبكر وكثرة الإنجاب…، والأهم من كل ذلك الاستقرار ومحاربة الهجرة والفقر والبطالة…، نرجو الاستجابة لمطالبكم الاجتماعية البسيطة والمشروعة، وبكل صدق لمطالب العالم القروي والأرياف والجبال، فإنها قلب ورئة هذا الوطن؟.